«الصفحة الأولى» في الصحافة هي شهادة التخرج. هذا تقليد اتبعته الصحف العربية والإفرنجية، ونأت عنه الصحافة الأنكلوسكسونية. طوال عقود ظلت الصفحة الأولى في «التايمز» للإعلانات المبوبة، بينما كانت الافتتاحية والأعمدة في الداخل، ولا تزال.
يدعي الصحافيون أن موقع المقال بالنسبة إليهم ليس مهماً. فالقارئ يلحق كاتبه حتى لو اختبأ خلف شبكة الكلمات المتقاطعة. وهذا صحيح. لكن الكاتب يفضل، طبعاً، ألا تبحث عنه خلف الكلمات المتقاطعة. دعاني مرة أحد أدباء لبنان المعروفين إلى منزله. وكان قد تقدمت به الشهرة والسن والاحترام والمكانة الاجتماعية، ولم أكن أعرفه شخصياً، غير أنه كتب عني في الماضي مقالات تُخجل تواضع أي إنسان. ولذا، عندما وجه الدعوة إليّ، سارعت إلى تلبيتها. وكان حاضراً في اللقاء زوجته ومحاميه وسكرتيره.
دارت الأحاديث كالعادة حول كل شيء، وجميع الناس. ولم يخيل إليّ أن هناك موضوعاً لم يُطرح بعد. وعندما هممت بالانصراف، وقف الجميع من حولي كأنهم يرجون بقائي. وبعد تردد، قال صاحب الدعوة، هل يمكنني أن أؤمِّن نشر مقالاتي في «النهار» على الصفحة الأولى؟ واعتذرت قائلاً إنه لا علاقة لي إطلاقاً في الأمر، ولا أنا قادر على تغيير تقاليد «النهار».
بعد أسبوع كتب الرجل مقالاً يمتدح فيه كاتباً آخر، لعله أكثر وصولاً بأصدقائه إلى الأولى. ولم يكن. فقد غاب المسكين عن ثروة وسمعة ومكانة، ينقصها توقيع الصفحة الأولى. وما أتيت على ذكر هذه الحكاية من قبل، لقناعتي أنه لا أهمية لها، لا على الأولى ولا في الأخيرة.
أمس كنت أقرأ في كتاب عظيم فرنسا، مارسيل بروست، عن عظيم آخر هو سانت بوف. ينتقد الأول، الثاني، في حدَّة وفي عبقرية. لكننا عندما نبحث عن أهم أمنية عند أشهر أدباء فرنسا، فهي مكانه على الصفحة الأولى من «الفيغارو». فأنت عندما تشتري نسختك من «الفيغارو» تسارع تلقائياً إلى طيها، ثم إلى قراءة مقال الصفحة الثانية المنشور بأحرف بارزة، مما يجعل التميّز على الأولى بلا فائدة.
مسألة تحيِّر حقاً. تطلب الأولى، وتنشد الصفحة الثانية. كان ذلك أوائل القرن الماضي يوم حجم «الفيغارو» عريضاً. ثم ابتكر الأميركيون فكرة الصفحة الأخيرة وأعمدتها ونجومها. وصار كاتب مبهج مثل راسل بيكر، يُقرأ قبل والتر ليبمان، أهم معلق سياسي. كما أصبحت ذكريات أنيس منصور في «الأهرام» تنافس ذكريات محمد حسنين هيكل.