بعد إقراره في مجلس النواب الأميركي، يتوجه قانون منع زعزعة استقرار العراق ليكون على طاولة مجلس الشيوخ للموافقة عليه بأغلبية مضمونة تشير إليها مقاعد الجمهوريين المؤيدين لسياسة الرئيس دونالد ترامب إضافة إلى توقعات تأييد الآخرين أيضا من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي قياسا إلى نسبة التصويت في مجلس النواب؛ والقانون المعدّ في يوليو 2017 يؤكد طبيعة التعامل لإدارة الرئيس دونالد ترامب مع الملف الإيراني حيث اختارت المواجهة على حساب مهادنة الإدارة السابقة للرئيس باراك أوباما.
عاد العراق مجددا على جدول الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط، وهذا في حد ذاته بمثابة صدمة للنظام السياسي الذي تهيمن عليه ولاية الفقيه في معظم مفاصله بحكم قراءة النظام غير الدقيقة أو لانجرافها مع تيار الأهداف الإيرانية خاصة بعد التوقيع على الاتفاق النووي وانكفاء السياسة الخارجية الأميركية عن اهتماماتها كدولة عظمى بما وفّر المناخات الملائمة لاتساع رقعة الإرهاب الإيراني وتخادمها الفاضح مع التنظيمات المتطرفة في أكثر من دولة.
كذلك التسليم بفكرة أن العراق جرى تسليمه إلى إيران بالاحتلال الأميركي وخدماته المجانية التي منحت السلطة لأتباع ولاية الفقيه، بل أكثر من ذلك عندما غضت أميركا الطرف عن تداعيات تشكيل الميليشيات وانتشار السلاح وارتهان مصير العراقيين للمحاصصة الطائفية والسياسية؛ ورغم منتجات تهديد السلم المجتمعي وضعف بنية القوات النظامية والأمنية الجديدة ومثالب الصراع على مكاسب السلطة إلا أن الولايات المتحدة انسحبت دون أيّ مسؤولية يفترض أن تتحملها كدولة احتلال.
الانسحاب الأميركي أدّى إلى انفلات غير محدود طبع تصرفات الأحزاب والشخصيات التي وضعت نفسها في دوامة الاحتكار الإيراني، وكان ما كان من أعمال العنف والقتل والتهجير حيث وجدت ضالتها في إرهاب تنظيم داعش وتفجيرات القاعدة وما اختلط بها من غايات لتوجيه دفة تقاسم الغنائم نحو الأفراد والجماعات؛ هذا الاشتباك في تفسير الانسحاب الأميركي وتوقيع الاتفاقيتين الأمنيتين بالرغم من تثبيت خطوط الاحتلال الأساسية في تواجد دائم عبر بعض القواعد أو القوات أو حجم السفارة وتعداد موظفيها الأكبر في العالم.
لكن الانطباع كان وبالذات عند الأحزاب والميليشيات الإيرانية الصرفة بولائها للمرشد، في أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بالعراق نتيجة لخسائرها المادية والبشرية وأيضا لمحاولتها تفادي الأخطاء بما صدر عن الرئيس جورج بوش الابن من اعتراف بعدم وجود أسلحة دمار شامل وأن قرار الاحتلال كان جراء معلومات غير مؤكدة ومضللة.
آثار احتلال الدول، ومن تجارب الشعوب، أنها تستمر لفترة طويلة قد تمتد لعقود أو تلقي بأعبائها لما هو أكثر بعدا، ولأن احتلال العراق بكل ملابساته ومداخلاته لم يكن مجرد حرب خاطفة لإزاحة نظام سياسي فقط، بل كان جزءا من استراتيجيات بعيدة المدى ذات صلة برسم بيانات النظام الدولي بعد أحداث 11 سبتمبر.
ذلك الهوس الطائفي لصغار اللاعبين على ساحة العراق دفعهم إلى الانقياد لفكرة العرفان بالجميل للمحتل الأميركي لما قدمه من خدمات توصيل طلبات المطبخ العقائدي للمشروع الإيراني، متناسين تماما الإطار العام للاحتلال وإرادته في الإبقاء على مصالحه من خلال النظام السياسي الذي جاء من خلال أموال ودماء الأميركيين.
الانتخابات البرلمانية في مايو 2018 بالعراق والاصطفافات التي حصلت فيها لفرض واقع الإرادة الإيرانية المطلقة وفق قناعات الجنرال قاسم سليماني، أعادا رسم السياسة الأميركية على ضوء غياب المعادلة القديمة للتوازن بين الطرفين الأميركي والإيراني والتي انتهت لصالح إيران ودعم المتغيرات الجوهرية ضمانا لصعود الميليشيات إلى واجهات العمل السياسي في البرلمان والحكومة وتفردها في خلفية القرار الأمني.
ولأن المتغير الأميركي المقابل، ونعني به إجراءات ترامب من الاتفاق النووي وما رافقها من تصعيد العقوبات ضد النظام الإيراني، لم يُأخذ في حسابات الأحزاب والكتل الطائفية مأخذ الجد في عمق تأثيره على العراق، ولذلك فعدم الاستجابة للتنبيهات الأميركية برزت علاماتها في استياء إدارة ترامب من دور الميليشيات وانسلاخها تماما عن أطروحات النأي بالعراق عن الصراع بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني عندما تعرضت المصالح الأميركية لهجمات بالصواريخ ومنها السفارة الأميركية في بغداد حيث انطلقت أول رسالة أميركية للنظام الحاكم في العراق لردعه عن تقمص أمراض انفصام الشخصية بتجاهله لحقيقة الدور الأميركي في صياغة وتثبيت قواعد النظام “الديمقراطي” وسبل حمايته بعدم تهديد الاقتصاد أو زعزعة الاستقرار.
الولايات المتحدة عادت إلى العراق بإجلاء موظفيها من السفارة وأيضا من الداخل الأميركي بطرح قانون جاهز وتحت اليد وبتوقيت الطلب؛ قانون منع زعزعة استقرار العراق الذي أقره مجلس النواب الأميركي وينتظر تصديق مجلس الشيوخ وهو قانون ضد التمدد الإيراني في العراق والمنطقة، ويضع الجماعات المسلحة الخاضعة لفيلق سليماني والحرس الثوري كمجموعات خارجة عن القانون وعلى سيادة العراق واستقلال قراره وثرواته وأمنه.
من الطبيعي أن يتباكى العديد من المسؤولين في العراق على السيادة المنتهكة من قبل الولايات المتحدة لإصدارها قرارا بمعاقبة أربعة من أتباع إيران رغم انتماءاتهم الدينية والمذهبية المختلفة في دلالة بالغة لعمق التغلغل الإيراني في نسيج المجتمع العراقي وهي بعض نتائج الترهيب وشراء الذمم وانتقاء الشخصيات لقيادة الميليشيات وفرض الأمر الواقع بحقائق تنوع الأتاوات مقابل الأمن والحماية.
توصيفهم لإقرار قانون منع زعزعة استقرار العراق بالوصاية وإعادة الاحتلال إلى المربع الأول هو إقرار من الميليشيات والأحزاب المتنفذة بوصاية واحتلال ولاية الفقيه للعراق؛ لكن الاحتلال تحت كل الظروف والمبررات عمل عدواني وانتهاك لا يغتفر، ولهذا من ساهم في تعبيد الطريق للاحتلال الأميركي لا يحق له الغضب لبناء نقطة تفتيش أميركية على ذات الطريق لتقليل الانتهاكات والخروقات الإيرانية التي لم تعد ترى في العراق سوى غنيمة من حرب أميركية.. الانفصام أيضا سياسة إيرانية.