وفي نظرة سريعة الى واقع ساحات الصراع المفتوحة في الشرق الاوسط، نجد في الطليعة استمرار الضغط الاميركي لتحقيق «صفقة القرن» رغم الضربات المتلاحقة التي تعرضت لها. ذلك انّ مستشار الرئيس الاميركي صهره جاريد كوشنر، يصل الى المنطقة في جولة مخصصة لإعادة إنعاش مشروعه من خلال افكار جديدة كشفت الصحف الاسرائيلية عن خطوطها العريضة، وتقوم على دعوة الدول العربية الى حضور قمة في «كمب ديفيد» لا تحضرها اسرائيل، للتخفيف من الحرج العربي حيث سيجري طرح ابرز نقاط الخطة. لكن الاهم وربما الاخطر ما تردد حول نيل واشنطن الموافقة العربية على قيام كيان فلسطيني من دون ان يعني ذلك قيام دولة مستقلة، والاعتراف بالوجود والحضور الفلسطيني في القدس الشرقية، ولكن من دون ان يعني ذلك تكريسها عاصمة للفلسطينيين. وهذا ما يكشف بعضاً من جوهر «صفقة القرن» والواقع الجديد المطروح للمنطقة.
وهنالك الحرب اليمنية والتطور الكبير الذي يصيبها جراء التموضع الإماراتي الجديد. وهو ما يعني بالنسبة للحرب الدائرة في اليمن إقراراً إماراتياً بوضع الحلول العسكرية جانباً والبحث عن حلول سياسية انطلاقا من المعادلة الميدانية الحالية. وبمعنى آخر الإقرار بالنفوذ الايراني القوي في اليمن. وفي 26 آب عام 2003 سلم الجيش الاميركي السعوديين قاعدة الامير سلطان الجوية، وكان ذلك بمثابة اعلان رسمي لنهاية الوجود العسكري الاميركي المباشر في السعودية. وبعد 16 عاماً جاء اعلان العودة من خلال زهاء 500 جندي وضابط اميركي معظمهم من الخبراء. وسيترافق ذلك مع رفع عدد صواريخ «باتريوت» التي يتولى الاميركيون تشغيلها، اضافة الى السعي لتطوير مدرج للطائرات استعداداً لوصول قاذفات مقاتلة.
ومن دون ادنى شك فإنّ هذه التطورات مرتبطة مباشرة بالصراع الاوسع مع ايران.
وفيما تبحث اسرائيل عن دور لها في «عملية الحارس» التي اطلقتها واشنطن لحماية حرية الملاحة في الخليج جنباً الى جنب مع قوات خليجية وربما اوروبية، لا تبدو ايران في موقع المتراجع ولا حتى القلق من الاحتكاكات التي تحصل.
وفي انتظار وصول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى طهران منتصف هذا الشهر، فإنّ المهمة التي نفّذها مستشاره ايمانويل بون لم تحقّق اي نقاط تقدم، ولكنها اكدت لطهران ان الدول الغربية صارت امام الحائط المسدود.
ذلك انّ جوهر المبادرة التي تقدم بها بون ارتكزت على ان تتوقف ايران عن اتخاذ المزيد من خطوات الانسحاب من الاتفاق النووي في مقابل ضمانة فرنسية بعدم ذهاب واشنطن الى اعلان المزيد من العقوبات.
رفضت طهران المبادرة الفرنسية ولوّحت باحتمال وقف تعاملها مع اوروبا والاستدارة شرقاً باتجاه الصين وروسيا وغيرهما. وعلى الساحة العراقية تزداد التعقيدات والمنارورات، ذلك أنّ اسرائيل التي باتت تتصرف كجسم طبيعي من نسيج المنطقة، بدأت تستعرض قوتها وتعمل على حجز وظيفة لها تتلخّص بأنها شرطي المنطقة وجيشها بوجه ايران. لذلك باشرت غاراتها من خلال طائراتها الـ اف 35 والتي تسلمتها حديثاً من الولايات المتحدة الاميركية.
لكن الادارة الاميركية أبلغت تل ابيب انزعاجها من فتح ابواب المخاطر في العراق خشية ردة الفعل الايرانية وتعريض المصالح الاميركية والجنود الاميركيين لخطر الانتقام.
ولكن الاهم هو بعودة الرهان على دور مفيد لـ»داعش» ما بين العراق وسوريا. صحيح انه ليس في مصلحة ايّ طرف اعادة إعطاء «داعش» دوراً واسعاً كالذي لعبته سابقاً، لكن فتح الابواب أمام «شغب» مضبوط قد يكون مفيداً وسط الصراع المفتوح.
وكان لافتاً في هذا المجال اقالة ترامب مسؤول الاستخبارات الاميركية الذي يشرف على كل اجهزة المخابرات بما فيها الـ CIA، حيث جرى تعيين احد اعضاء مجلس النواب الاميركي وهو من الحزب الجمهوري وشديد الولاء لترامب ومؤيد بالكامل لأفكاره، فيما كان سلفه يعارض ترامب في الكثير من توجهاته ويصفها بالمتهورة. وهذا ما يعني ان الحرب السرية سترتفع حماوتها في العراق.
تبقى الساحة السورية والصراع المتفاقم بين واشنطن وانقرة حول المنطقة العازلة. صحيح انّ الخلاف تركّز على عمق المنطقة وانواع الاسلحة، والاهم وظيفة المنطقة العازلة ومصير الاكراد، إلّا انّ الواضح انّ هنالك صراعاً على دور تركيا ومدى نفوذها ما يشكل عنصراً جديداً في المعادلة السورية.
وسط كل هذه التعقيدات هنالك مَن يدفع بالوضع اللبناني عن إدراك او عن جهل الى فوضى غير محسوبة. فأين الحكمة في إقحام لبنان في الورشة الإقليمية من خلال الاستمرار في تعطيل الحكومة ايّاً تكن الاسباب؟ واين الحكمة في فتح كتاب الطائف و»النبش» في بنوده في وقت تجري اعادة ترتيب دول المنطقة وتركيب انظمتها وتحديد حصص الدول الكبرى؟
عام 1989 بدأ الزلزال بطرح ملف خروج الجيش السوري من لبنان وهو كان حقاً كاملاً للبنان لا جدال فيه، لكنّ الظرف في المنطقة كان ظرف التسوية الإسرائيلية - الفلسطينية من خلال المؤتمر الدولي للسلام وتطويع الرافضين من خلال حرب الخليج. وكانت النتيجة جحيم في المنطقة الشرقية يومها والدخول في اتفاق الطائف الذي لحظ حصصاً إقليمية فيه على حساب المسيحيين، ورغم ذلك لم نتعلم شيئاً من دروس التاريخ. ومرة جديدة نُدخل انفسنا في ازمات كبيرة من زاوية المصالح الشخصية الضيقة، ولكنها تفتح علينا ابواب الجحيم الإقليمية، وتنفيذ تسويات خارجية من حسابنا.
ففي لبنان يدور الجميع في حلقة مفرغة قاتلة، يضاف اليها «سم» «نبش» تعديل الدستور من خلال «توضيح» بنود اتفاق الطائف. فيما الوزير جبران باسيل يقول لمدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم: لا اريد حلولاً تكرس انكساري.
ويقول له وليد جنبلاط ايضاً: آتني بضمانة من «حزب الله» كي اذهب الى المجلس العدلي. ولكن الحزب لا يجيب، ويحيل ابراهيم الى النائب طلال ارسلان.
أواخر هذا الشهر ينعقد اللقاء السنوي بين الرئيس الفرنسي وسفرائه في العالم، واللافت انّ لبنان سيكون بنداً في جدول الاعمال. ربما قد يتفاجأ بعض السفراء او يهزأ بعضهم الآخر بالمراهقة اللبنانية.