لم يكن شعب العراق يتوقع أن تصدر عقوبات بحق فاسدين داخل وطنه من قبل الولايات المتحدة، بل كان ينتظر أن تنصّب المحاكم القضائية العراقية بحق كل من نهب وسرق قوة العراقي وثمن دوائه ورفاهيته. وأن ترتفع منصات المشانق في ساحة التحرير ببغداد لإعدام بائعي الوطن، لا أن تصدر مثل هذه القرارات من واشنطن الموصوفة بأنها دمرت هذا البلد وأهله.
القانون الأميركي الجديد الذي حمل عنوان “منع زعزعة استقرار العراق” أعد بعناية فائقة من قبل مستشاري دونالد ترامب، وجوانبه السياسية والأمنية الدقيقة تؤشر إلى حقيقة أن ترامب لديه برنامج تصعيدي في مواجهة إيران في العراق، وهو العالم بأن أي عقوبات لن تحقق أهدافها من دون ضبط حركة الدولار الأميركي بين العراق وإيران.
تملك إيران جيشا مدنيا من المشتغلين في ميادين التجارة والمال داخل العراق، ومعظمهم من العراقيين الذين سبق أن هجروا إلى إيران قبيل الحرب العراقية الإيرانية وعادوا وأصبحوا يديرون التجارة بين البلدين إلى جانب كثير من الإيرانيين أنفسهم. وتوسعت المؤسسات والمنظمات المالية داخل العراق خارج المصارف الرسمية وأصبح لها رجالها وبعضهم لديه امتدادات داخل الأحزاب ومؤسسات الحكومة المالية والمصرفية.
ويحاول الرئيس الأميركي أن يثبت من خلال سلسلة إجراءاته بأن لديه برنامجه التدريجي لحصار طهران التساؤلات التي تطرحها مواقفه اليومية المتذبذبة حول أزمة بلاده مع طهران. يتخطى ترامب بالقرار الأخير بياناته الغوغائية مثل دعوته لمراقبة إيران من قاعدة “الأسد” العسكرية داخل العراق. ويعيد القانون الجديد إلى الأذهان قانون “تحرير العراق” عام 1998 تحت إدارة بيل كلينتون الذي عزز مكانة “المعارضة العراقية” وأعطاها زخما معنويا كانت بحاجة إليه، وكان مقدمة سياسية عملية لمشروع الاجتياح العسكري الذي قاده الرئيس جورج بوش الابن ضد العراق عام 2003.
وهذا ما يلفت الانتباه إلى أن العمل السياسي الجدّي داخل الولايات المتحدة هو ما يحصل مؤسساتيا خصوصا عبر مجلس النواب والشيوخ. وقع القانون الجديد كالصاعقة داخل الساحة السياسية العراقية، أحزابا وحكومة، ولم تظهر ردود فعل بمستوى الحدث لسبب بسيط كونه حمل مشروع حماية النظام السياسي العراقي القائم، وهو محرج للأحزاب الشيعية الحاكمة.
وتزامن مع قرار وزارة الخزانة الأميركية بوضع أسماء على لائحة العقوبات والملاحقة لكل من محافظ صلاح الدين السابق أحمد الجبوري (أبومازن)، ومحافظ نينوى السابق نوفل العاكوب، وزعيم مجموعة “بابليون” المسيحية في الحشد الشعبي ريان الكلداني، وقائد اللواء 30 في الحشد الشعبي وعد القدو، الذي يفضل مناداته بأبي جعفر الشبكي، في إشارة مذهبية إلى شيعيته، بسبب “التورط في جرائم ضد حقوق الإنسان وفساد مالي قاد إلى انتهاكات إنسانية”.
يختلف هذا القرار عن حالة التعاطي المحلي السياسي في المناكفات الإعلامية بإطلاق الاتهامات الكثيرة وبعضها موثقة، إلى جانب المواقف التي لم تتحول يوما ما إلى قرارات وإجراءات حكومية بسبب ملابسات المحاصصة الحزبية. جاء هذا القرار بعد ساعات من تصريحات نائب الرئيس الأميركي مايك بنس بأن بلاده “لن تبقى مكتوفة اليدين بينما تنتشر الميليشيات المدعومة من إيران”.
والملفت البنك المركزي، وهو أعلى سلطة نقدية في البلاد، أمر جميع المصارف الحكومية والخاصة إلى تجميد التعاملات مع الشخصيات العراقية التي وردت أسماؤها على لائحة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية وبتعقب أموال المعاقبين والحجز عليها تطبيقا للقرار الأميركي. وتم ذلك بتوجيه من رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي، وهو الخبير الاقتصادي العارف بعلاقة تلك الإجراءات وكذلك القانون الجديد بالاتفاقية الإستراتيجية بين واشنطن وبغداد.
من يقرأ القانون الأميركي الجديد من خارج دوائر الأحزاب والفصائل المسلحة الموالية لطهران يجده يأتي لخدمة وحماية نظام الحكم في العراق وفي سياق المبادئ التي تضمنتها الاتفاقية الإستراتيجية بين واشنطن وبغداد والتي تضمنت في أحد بنودها “الحق للقوات الأميركية في التدخل عسكريا تجاه كل ما يزعزع أو ينوي إسقاط الحكم” واتخاذ مختلف الإجراءات والوسائل وبينها الوسائل العسكرية والأمنية للحفاظ على الحكم.
وأجاز القانون للرئيس الأميركي “فرض عقوبات على أي أجنبي ينوي القيام متعمدا بأي شكل من أعمال العنف، له غرض أو تأثير مباشر على تهديد السلام والاستقرار في العراق، أو حكومته وتقويض العملية الديمقراطية فيه”، وهو بذلك يقصد التدخل الإيراني في العراق.
انزعجت بعض الأوساط السياسية والبرلمانية العراقية من طبيعة التوجه الجدي الأميركي ضد الفاسدين وربط ذلك بخدمة المصالح الاقتصادية والتجارية الإيرانية. هذه الصدمة جعلتهم يجترون عبر وسائل الإعلام المختلفة عبارات مكرّرة تطالب الحكومة العراقية بتطبيق قرارات ضد الولايات المتحدة، لكن هذا القانون يشير إلى أن تصعيدا كبيرا سيتحقق في الأيام المقبلة ومتوقع ظهور أسماء جديدة.
وهؤلاء الذين ترتصف أسماؤهم الآن وفي الأيام المقبلة على قوائم الفساد وانتهاك حقوق الإنسان دخلوا العراق تحت الراية الأميركية ولكنهم طغوا بما نهبوه من أموال عوائل العراق وشبابه العاطلين عن العمل. ولهذا فشعب العراق مغتبط وفرحان للسكين التي تضرب من أين أتت لتقتص من الفاسدين، بل إن العراقيين يتمنون لو صدرت مثل هذه الأحكام من رئيس حكومة العراق لأخذت صفة وطنية أكثر إيقاعا في ضمير الناس، ويتمنون أن تكون حافزا لقرارات قوية ضد خصوم الشعب وسراقه. شعب العراق لا يرضى لدولة خارجية أن تتحكم بمصيره سواء أميركا أو إيران، لكنه في حالة من الإحباط التي يتلمسها كل غيور شريف محب للعراق.