رسالة عون لم تُعدّ بعد، وما زالت فكرة منطلقة من أنّ المادة 95 من الدستور تحدث إشكالية في كلّ مرة يُطرح فيها موضوع التوظيف. ولم يتوضّح نهائياً إذا كان الرئيس سيوجّه هذه الرسالة، كذلك لا موعد محدّداً لتوجيهها إذا قرّر ذلك.
الرسالة غير متعلّقة بالموازنة
وفي حين يُربط تفسير المادة 95 من الدستور بالفقرة الأخيرة من المادة 80 في موازنة 2019 المتعلقة بحفظ حق الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية، والتي أثارت إشكالية لم تُحلّ إلى الآن، إذ إنّ المادة الدستورية تنصّ على آلية التوظيف في الدولة، يؤكّد مطّلعون أنّ رسالة رئيس الجمهورية منفصلة نهائياً عن الموازنة وعن المادة 80 منها، فالرئيس سيوقّع الموازنة. أمّا رسالته فمقتصرة على الطلب من مجلس النواب الإتفاق على توضيحها للانتهاء من الجدل المُثار حولها، فالمطلوب التفاهم على هذه المادة لمنع الالتباس واللغط الحاصلين.
وتنصّ هذه المادة على الآتي: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
وفي المرحلة الانتقالية:
أ - تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
ب - تلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة».
وبالنسبة إلى رئيس الجمهورية، ففي الواقع لا مفاعيل لهذه المادة إذ إنها لم تُطبّق بعد، ولم تُنفّذ أي فقرة منها، باستثناء المناصفة في مجلسي النواب وتشكيل الوزارة. فلا هيئة إلغاء الطائفية شُكّلت ولا دخلنا في المرحلة الإنتقالية، حسب ما تنص المادة. وبالتالي، ما زال الوضع كما كان قبل إدخال هذه المادة على الدستور اللبناني عام 1990. ويُفسّر عبارة «مقتضيات الوفاق الوطني» التي تنص عليها المادة 95 بأنّها مرادف للتعبير المُستخدم عرفاً أي 6 و6 مكرّر والمناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
ويرى الرئيس أنّ هذه المادة يجب أن توضّح، إذ إنّ آلية تشكيل هيئة إلغاء الطائفية والدخول في المرحلة الانتقالية لم تُطبّق بعد، وبالتالي وعلى ما تنصّ هذه المادة نفسها يجب أن يكون التوظيف وفق مقتضيات الوفاق الوطني أي الشراكة المسيحية-الإسلامية، وبتعبير آخر المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في الوظائف كما في مجلس النواب والحكومة.
خلفية المادة
الإشكاليات السياسية تُغلّف دائماً بإشكاليات دستورية، وتتعدّد التفسيرات الدستورية، ومن بينها تفسير المادة 95. وفي حين يشاطر البعض عون تفسيره، يعتبر البعض الآخر، ومن بينهم رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي وعضو تيار «المستقبل» سمير الجسر، أنّ المادة 95 واضحة وصريحة وتنص على المناصفة في وظائف الفئة الاولى حصراً. فما هي خلفيات المادة الحقيقية؟ وما هو تفسيرها الصحيح؟
رزق
يوضح أحد صائغي التعديلات الدستورية وفق «اتفاق الطائف» المرجع الدستوري، النائب والوزير السابق إدمون رزق لـ»الجمهورية»، أنّ «فلسفة المادة 95 وخلفيتها هما العبور من الحالة الطائفية إلى المواطنة».
ويشرح فقرات المادة، مشيراً إلى أنّ عبارة «على مجلس النواب»، تعني أنّه كان من المفروض على المجلس الذي انتُخب على أساس المناصفة عام 1992 أن يُشكّل الهيئة العامة لإلغاء الطائفية».
ويشدّد رزق على أنّ المادة تنصّ على «إلغاء الطائفية كلّها من جذورها وليس إلغاء «الطائفية السياسية»، إذ إنّ إلغاء الطائفية شرط للوصول إلى إلغاء «الطائفية السياسية»، لأنّ إلغاءها من دون إلغاء الطائفية يعني إلغاء الطوائف وإحداث خلل اجتماعي ووطني. لذلك، وجب نزع الطائفية من النفوس والعبور من خلال التربية المدنية إلى المواطنة والدولة العلمانية، ابتداءً من التربية من مرحلة الحضانة. وهذا الأمر يحتّم تعديل مناهج، وعلى الأخص إعداد كتاب تاريخ موحّد». ويلفت إلى أنّ «مشروع الخطة المرحلية يمتد على سنوات، أقلّه 10».
معنى مقتضيات الوفاق الوطني
وعن الفقرة الثانية من المادة التي تنصّ على آلية التوظيف، والتي صاغها رزق، يشرح أنّ «تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة» اتُفق على أن يكون «مناصفة بين الديانتين المسيحية والإسلامية، وأن يكون مثالثة ضمن المناصفة، أي أن يكون عدد وزراء الموارنة والسنّة والشيعة مماثلاً ضمن المناصفة، التي تشمل الكاثوليك والأرثوذكس والدروز والأقليات إذا تقرّر إشراكهم في الحكومة».
أمّا عبارة «مقتضيات الوفاق الوطني» فيشدّد رزق على أنّها تعني «المناصفة». ويقول: «أردنا أن تكون هناك نظرة حديثة للدولة، وأن يكون بناؤها على أساس الكفاءة والاختصاص والأهلية، مع مراعاة الوفاق الوطني الذي يقضي بالمناصفة». ويلفت إلى «أننا ذكرنا صراحة المناصفة في الفئة الأولى، تأكيداً للقيادات، وذكرنا مقتضيات الوفاق الوطني التي تقضي بالتوازن في العدد في كلّ الوظائف».
لكن، لماذا نُصّت المادة بهذه الطريقة التي تسمح بالتأويل والتفسيرات المتعددة ولم تنصّ على المناصفة بنحوٍ مطلق؟
يجيب رزق: «أردنا التوجُّه إلى المستقبل وأن نبني نظاماً علمانياً، وقلنا «الوفاق الوطني» انطلاقاً من الحساسيات واعتبارات الحفاظ على الوفاق الوطني من خلال المناصفة، لأنّ قاعدة الحفاظ على الوفاق الوطني هي التزام المناصفة مع الكفاءة والاختصاص، للحؤول دون طغيان طائفة على أخرى. وبما أنّ هيئة إلغاء الطائفية لم تشكّل بعد ولم نصل إلى إلغاء الطائفية، يجب أن تُعتمد المناصفة في كلّ وظائف الدولة».
ويقول: «حين يكون الوفاق الوطني أمام إشكالية الاختلال في التوازن العددي، يجب تدارك الأمر بالحفاظ على هذا التوازن. ويجب العودة إلى فلسفة المادة، وهي الوفاق الوطني القائم على التوازن. والتوازن يتمّ بمراعاة المناصفة».
لكن هناك مباريات وامتحانات عبر مجلس الخدمة المدنية، تفرز ناجحين وراسبين، للدخول إلى وظائف الدولة، ومن الصعب أن تؤمّن المناصفة بين الناجحين. فكيف تحلّ هذه الإشكالية؟. يجيب رزق: «تُحلّ وتؤمّن المناصفة بالممارسة». أمّا حلّ إشكالية التوظيف بنحوٍ عام فيحتّم، حسب رزق، إنشاء الهيئة الوطنية والعبور إلى المواطنة.
توافق نيابي أو إشكالية جديدة؟
لكن هناك أطرافاً أخرى تخالف هذا التفسير، ويعتبر البعض، ومن بينهم رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي وعضو كتلة «المستقبل» النائب سمير الجسر، أنّ المادة 95 واضحة وصريحة وتنص على المناصفة في وظائف الفئة الاولى حصراً. كذلك، أبدى نواب من كتل نيابية عدة، مثل حركة «أمل» و»حزب الله» و»المستقبل»، إصرارهم على أحقية توظيف الناجحين في المباريات عبر مجلس الخدمة المدنية، بصرف النظر عن التوازن الطائفي.
فهل يتمكّن رئيس الجمهورية من تأمين «توافق نيابي» على المادة 95 لمرة أخيرة؟
يرى رزق أنّ الإشكالية الحالية سياسية لا دستورية، لكن على المستوى الدستوري يشرح أنّ «الدستور أولى رئيس الجمهورية هذا الحق، ومن المفروض أن تكون الرسالة معللة، وهذا الأمر يعود إلى تقدير الرئيس. ويُمكن الرئيس أن يحضر شخصياً إلى مجلس النواب لتوجيه الرسالة وجاهياً إلى النواب، لا أن تكون فقط بالمراسلة. ويلتئم المجلس ويستمع إلى الرسالة، سواء حضر الرئيس إلى المجلس لتوجيهها مباشرة، أو تُليت في غيابه».
ويوضح أن «لا مفاعيل دستورية لهذه الرسالة مُلزمة لمجلس النواب. وحين يوجّه الرئيس الرسالة يصبح المجلس سيّد نفسه ويحقّ له التجاوب مع مطالب الرئيس أو لا. لكن من المُفترض أن يتجاوب المجلس، وإلّا يثير عدم تجاوبه إشكالية بنيوية. ومن المفروض أن تكون الرسالة مُوجّهة ضمن الصلاحيات الدستورية وأن لا تُرفض، فلا مواجهة من خلال الرسالة بين الرئيس والمجلس، بل هي نوع من التوجيه».
وعلى رغم أنّه من المُفضّل أن يحضر الرئيس شخصياً إلى مجلس النواب لتوجيه الرسالة، إذ يكون عندئذ مفعول الرسالة أقوى، من المُرجّح أن يكتفي عون، إذا قرّر توجيه الرسالة، ببعثها خطياً عبر رئيس المجلس لتلاوتها من دون حضوره.