لا أحد يراهن على تنفيذ القرار الذي اتخذته القيادة الفلسطينية، وأعلنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بذاته، بعيد اجتماعها في رام الله (25 /7)، والقاضي بوقف الاتفاقيات المعقودة مع إسرائيل، علما أن تلك الاتفاقيات بات لها من العمر أكثر من ربع قرن.
ثمة عدة أسباب تجعل ذلك الرهان خاسرا، أو تجعل من انتظار تنفيذه عمليا أمرا غير واقعي، يكمن أهمها في الآتي:
أولا، ليست تلك المرة الأولى التي يتم فيها اتخاذ قرار من هذا النوع، فهذه ربما المرة الثالثة، إذ تم تقرير ذلك لأول مرة في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني قبل أربعة أعوام (2015)، وأعيد تأكيده العام الماضي، أيضا في اجتماع للمجلس المركزي، وهو يتضمن تحديد العلاقة مع إسرائيل، والتهديد بسحب الاعتراف بها، ووقف التنسيق الأمني معها، والانتهاء من علاقات التبعية الاقتصادية لها وفق اتفاق باريس (الملحق باتفاق أوسلو 1993)، لكن كل تلك الأمور لم تنفذ.
ثانيا، منذ عشرة أعوام والرئيس الفلسطيني يصرح، مرة تلو الأخرى، بإمكان التحول نحو خيارات أو بدائل مختلفة، بل إنه ذهب أبعد من ذلك في بعض تصريحاته، بخاصة التي لوح فيها بإمكان حلّ السلطة ووضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كدولة احتلال، والتي هدد في بعضها بالذهاب إلى البيت، أي الاستقالة، ناهيك عن تلويح بعض القياديين الفلسطينيين بالتحول نحو هدف الدولة الواحدة، كأنهم في ذلك يهددون أو يخوفون إسرائيل، وليس على سبيل الجد، أي بالانتقال من مشروع الدولة في الضفة والقطاع إلى الكفاح من أجل مشروع آخر يقوم على كامل الحقوق الفلسطينية في كامل أرض فلسطين.
ثالثا، واضح من طبيعة القرار الصادر أن الأمر يتعلق بمجرد البحث عن آليات وقف الاتفاقيات، وتشكيل لجنة من أجل ذلك، وهو ما يفيد بأن الأمر ليس مطروحا للتنفيذ حقا، وإنه إنما يشهر من قبيل التلويح بالتهديد في وجه إسرائيل، أو من قبيل رفع العتب وإبراء الذمة إزاء الشعب الفلسطيني، للتغطية على حال العجز والانكشاف وفقدان الإرادة إزاء انتهاكات إسرائيل لحقوق الشعب الفلسطيني (كما جرى في هدم الأبنية في صور باهر في القدس الشرقية مؤخرا)، وإزاء تملصها من عملية التسوية، التي أصبحت مجرد حبر على ورق، ومكسب خالص لها، بعد أن أضحت السلطة بمثابة سلطة تحت الاحتلال، وأضحت إسرائيل، في ظل ذلك، في واقع من الاحتلال المريح والمربح.
رابعا، من الناحية الواقعية، وهذا هو الأهم، ثمة مسألتان يفترض إدراكهما هنا جيدا، الأولى، وهي أن السلطة الفلسطينية بذاتها هي نتاج اتفاق أوسلو (1993)، الذي جرى في رعاية دولية وإقليمية، لذا يبدو من المستبعد أن تتخلى عن حجر الأساس في وجودها، وشرعيتها كسلطة، أو أن تذهب نحو حل نفسها، وهو خيار جرى استبعاده منذ سنوات، لأنه يخدم السياسة التي تنتهجها إسرائيل، أو يصب في طاحونة إملاءاتها بإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه رغم ما في ذلك من إشكاليات في ظل الواقع الفلسطيني الراهن.
والثانية، أن ربع قرن من اتفاق أوسلو، ونصف قرن من الاحتلال، جعل من علاقات التبعية وشبكات الاعتمادية، بين الفلسطينيين وإسرائيل، أمرا يصعب تصور كيفية التخلص أو التحرر منه، لأن الأمر لا يتعلق بمجرد تنسيق أمني، أو تحكم إسرائيل بالصادرات والواردات والمعابر، فمجمل البنى التحتية في مناطق السلطة مرتبطة بإسرائيل، في الكهرباء والمياه والطاقة والحاجات الأساسية، سيما أن اتفاق أوسلو لم ينجم عنه إنهاء الاحتلال، أو فك الارتباط به، وإنما بوجود سلطة فلسطينية تحت الاحتلال.
خامسا، لا يمكن تصور إمكانية خروج القيادة الفلسطينية من هذا الوضع إلا بقلب الطاولة والعمل من خارج المعادلات السائدة، ويبدو هذا الخيار، المغامر، وربما الانتحاري، بمعنى معين، أي وفقا للظروف التي نشأت عليها السلطة وارتهنت لها، غير عملي، ولا تستطيعه القيادة، أو تفتقد الإرادة السياسية للسير فيها، بخاصة أنه لا توجد له بيئة لا دولية ولا عربية تغطيه، وحتى أن الوضع الفلسطيني غير قادر على تغطيته، في ظل الانقسام الحاصل، وضياع مجتمعات اللاجئين في الخارج، وتهميش منظمة التحرير، بخاصة أن القيادة الفلسطينية لم تهيء نفسها، ولم تعد شعبها لتلك اللحظة، أو لذلك الاستحقاق الكبير.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تعمل السلطة بهذا الاتجاه رغم انكشاف عقم اتفاق أوسلو، الناقص والمجحف والمهين، منذ عقدين، ورغم تبين تملص إسرائيل من استحقاقات الحل الانتقالي، بعد انتهاء مدته (1999)، لاسيما على ضوء مفاوضات كامب ديفيد 2 (2000)، وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية وحصار الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ثم بعد قيام إسرائيل بمعاودة احتلال مدن الضفة، وبناء الجدار الفاصل وتعزيز أنشطتها المتعلقة بالاستيطان في الضفة وتهويد القدس؟
على ذلك تبدو القيادة الفلسطينية كأنها تنبهت اليوم فقط إلى هذا الواقع، للأسف، لكن ليس بسبب ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلة، منذ زمن طويل، وإنما بسبب انقشاع أوهامها عن الولايات المتحدة، “الراعي النزيه” و”الوسيط المحايد” لعملية السلام، بالنسبة لها، باعترافها بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل سفارتها إليها، وشطبها قضية اللاجئين باعتبارها باتت متقادمة ووقف دعمها وكالة الغوث، كما باعترافها بحق إسرائيل في البناء في القدس وأماكن أخرى في الضفة، وشروعها الترويج لصفقة تسوية إقليمية، تتضمن إزاحة قضية فلسطين من جدول الأعمال، وتتجاوز القيادة الفلسطينية، ما يستنتج منه أنه في ظل الأوضاع المضطربة في المشرق العربي لم يعد ثمة دور للفلسطينيين، أو لم يعودوا يمتلكون ورقة الحرب أو السلام في المنطقة.