يشرح القطب هذا التوصيف بالقول إنّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يخوض «معركة وجود»، وفي المقابل يخوض رئيس «الحزب الديموقراطي اللبناني» النائب طلال ارسلان «معركة إثبات وجود». ولذلك فإنّ الأزمة تبدو مستحكمة وأبرز مضاعفاتها السياسية خطورة حتى الآن تعطيل جلسات مجلس الوزراء بفعل الخلاف على موضوع إحالة حادثة قبرشمون الى المجلس العدلي التي يطالب بها ارسلان وحلفاؤه، فيما يعارضها جنبلاط وحلفاؤه الذين لا يمانعون هذه الإحالة إذا اقترنت بإحالة حادثة الشويفات الى المجلس العدلي في الوقت نفسه، وهي مبادرةٌ طرحها جنبلاط وأيّدها رئيس مجلس النواب نبيه بري ونصح المعنيين باعتمادها، ولكن لم يُكتب لها النور بعد.
على أنّ التردد في موقف بعض المراجع المسؤولة، حسب القطب نفسه، هو ما يعوق حسم المسار القضائي لحادثة قبرشمون، فتارة تميل غالبية الأفرقاء الى الإحالة للمجلس العدلي، وطوراً تتراجع الى خيار إحالتها للمحكمة العسكرية، وهذا الواقع هو ما دفع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الى إعلان مواقف حاسمة في طلته الإعلامية الاخيرة بتأييد موقف حليفه ارسلان المتمسِّك بإحالة الحادثة الى المجلس العدلي، وحديثه عن وجود قاتل ومقتول في الحادثة، وقيل إنّ كلام نصرالله أُريد منه شدّ أزر بعض المترددين في الموقف وعلى رأس هؤلاء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي أيّد بداية الإحالة الى المجلس العدلي ثم تراجع الى المطالبة بتولّي المحكمة العسكرية هذه القضية قبل أن يعود مجدداً الى توجّهه الأول والذي تمسّك به أكثر بعيداً من أيّ تردد بعد إطلالة نصرالله الإعلامية الاخيرة. علماً أنّ رئيس مجلس النواب كان هو مَن اقترح أن تُحال القضية الى المحكمة العسكرية حتى إذا تبيّن لها أنّ الأمر يستدعي إحالتها الى المجلس العدلي يكون ذلك.
ولكن الى الآن لا شيءَ يوحي أنّ حادثة قبرشمون وشظاياها التي تناثرت في اتّجاهاتٍ عدة هدّدت الحكومة بأكثر من تعطيل جلسات مجلس الوزراء وامتعاض رئيسها سعد الحريري الذي يرغب الفصل بينها وبين العمل الحكومي، بحيث توضع الحادثة على سكة المعالجة القضائية سواءٌ كانت المحكمة العسكرية أو المجلس العدلي، فيما تعاود الحكومة اجتماعاتها وتتابع شؤون الناس وقضاياهم، خصوصاً في هذه المرحلة البالغة الخطورة والتعقيد على المستويَين الإقتصادي والمالي.
وخلافاً للاعتقاد السائد، ورغم امتعاضه، فإنّ الحريري، وحسب بعض أصدقائه، ليس في وارد الاستقالة مهما بلغت درجة امتعاضه أو الإحراجات التي يشعر بها، مستنداً الى مسلمة مفادها أنّ نتائج الإجتماع الأخير لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مع رؤساء الحكومة السابقين فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام صبّت في مصلحته حيث كان تشديدٌ على وجوب دعمه في مواجهة أيّ محاولة للإعتداء على صلاحياته الدستورية كرئيس للحكومة ولمجلس الوزراء. ولم يؤتَ في هذا اللقاء على ذكر تغيير شخص شاغل هذا الموقع الدستوري في هذه المرحلة، علماً أنّ ما يرشح من الأوساط الحكومية أنّ الحريري ليس في وارد الإستقالة، بل إنّ كل أدائه يؤكد أنه باق في موقعه الى الانتخابات المقبلة في ربيع 2022، وانّ علاقاته برئيس الجمهورية وكذلك مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل تترسخ أكثر فأكثر، وكذلك التعاون في مختلف المجالات.
ويحاذر الحريري دعوة مجلس الوزراء الى الإنعقاد قبل حصول اتفاق على المخرج القضائي لحادثة قبرشمون، وهذا الإتفاق الذي ينبغي حصوله بين الفريقين المعنيين، أي جنبلاط وإرسلان بما يمثلان درزياً وسياسياً، واجبٌ حصوله أيضاً بين رئيسي الجمهورية والحكومة، الأمر الذي لم يحصل بعد على هذين الصعيدين. وهو ما يؤدي الى فشل كل المساعي والمبادرات التي طُرِحَت وتُطرح لهذه الغاية حتى الآن.
ويُحكى في بعض الأوساط أنّ في خلفية موقف جنبلاط رغبةً في حلٍّ مرِن لحادثة قبرشمون، حتى عبر المجلس العدلي وليس عبر المحكمة العسكرية، ولكن جنبلاط يريد أن يكون هذا الأمر مقروناً بضمانات ليس من المراجع الرسميّة المسؤولة فقط، بل من «حزب الله» ايضاً، والبعض يقول إنّ رفض جنبلاط الإحالة الى المجلس العدلي مردّه الى انه يخشى من أن تؤدي الى فتح الباب امام مفاعيل رجعية قضائية شبيهة بتلك التي حصلت مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بعد إحالة حادثة تفجير كنيسة سيدة النجاة على المجلس العدلي، بحيث يمكن هذه المفاعيل أن تطاول بعض معاونيه، لكن هذا البعض يستبعد أن تصل الامور في حادثة قبرشمون الى هذا المستوى لأن لا أحد يريد للأزمة أن تكبر أو تتشعّب، فيما المراد أن تعالَج وتطوَّق ذيولُها منعاً لأيِّ فتنة.
ويقال إنّ بري يلعب دوراً في تقريب بين «حزب الله» وجنبلاط الذي التقاه اخيراً وتمنى عليه مفاتحة الحزب في رغبته تطبيع العلاقة معه وكان الرد أنّ الحزب «أخذ علماً» في الأمر، وإذ عوّل البعض على صدور موقف معيّن في هذا الشأن عن السيد نصرالله من إطلالته التلفزيونية الاخيرة لمناسبة الذكرى الـ 31 لمؤسسة «جهاد البناء»، جاء الأمر تأكيداً للمواقف المعروفة وهي الوقوف الى جانب «الحليف» إرسلان وتأييد الطروحات التي قدّمها لمعالجة حادثة قبرشمون.
وفي انتظار أن يحسم الحريري موقفه بدعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد من عدمها، يقول أحد النواب البارزين إنّ البعض اذا كان يريد أن يحاسب الحريري على «تفريط مزعوم» بصلاحيات رئيس الحكومة، فإنّ مثل هذا التفريط حصل ايام رؤساء حكومة سابقين، وتكرّس عرفاً لدى بعض القيادات والمرجعيات، وبالتالي لا ينبغي أن يُلام الرجل على شيء لم يفعله هو، وعندما كان حديث في اللقاء الاخير مع الملك سلمان ومع وزير الخارجية السعودية إبراهيم العسّاف في جدة حول صلاحيات رئاسة الحكومة، كان تشديدٌ على أنّ هذه الصلاحيات دستوريّة وطنيّة ينبغي مقاربتها بهذا المعنى وليس بمعنى طائفي أو مذهبي من شأنه أن يوحي وكأنّ المواقعَ الرئاسية اللبنانية إقطاعاتٌ طائفية ومذهبية.
علماً أنّ خصوم الحريري أو بعض الطامحين الى تولّي رئاسة الحكومة مكانه لا يجدون عضاضة في التصويب عليه تحت عنوان «التفريط» بصلاحيات رئاسة الحكومة «خدمةً لمصالح سياسية وشخصية» حسب زعمهم، الامر الذي نفاه الرجل وينفيه، ويؤكد بقاءَه في رئاسة الحكومة طالما يتمتع بثقة المجلس النيابي، وأنه ليس في وارد التخلّي عن أيٍّ من صلاحياته.