تزدحم المشاريع والمبادرات من أجل تأمين سلامة الملاحة في مضيق هرمز وجواره. ويدور سباق دبلوماسي في سياق صراع دولي- إقليمي حول أمن الخليج. وزادت الممارسات الإيرانية الأخيرة من المخاوف لأن إعاقة الملاحة وتهديدها يمسّ شريانا حيويا لاقتصاد العالم.
لكن، أخذ ينقلب السحر على الساحر، وبدل أن تكون المشاغبة تحت سقف معين لورقة إيرانية رابحة (مع إثبات التحكم بألف وخمسمئة ميل على ضفاف الخليج) سرعان ما قفز إلى واجهة الاهتمام أمن الخليج وكيفية تأمين الملاحة وحماية ناقلات النفط، وذلك بدلا من التركيز على العقوبات الأميركية وكيفية التصدي لها.
وأصبح همّ إيران مراقبة الخطط الأميركية والأوروبية بخصوص حماية الملاحة البحرية في الخليج، ومقابل السعي الأميركي لتسجيل النقاط من خلال تحالف “حارس” لحماية الملاحة والحذر الأوروبي في الانخراط إلى جانب واشنطن، تبرز في هذا المضمار مبادرة روسية غامضة بشكل مقصود تتلاقى مع دور صيني خفي في تحريض طهران على التصعيد. هكذا يبدو الموقف مفتوحا ولا تبدو المبارزة الحالية في طريقها إلى الحسم لكنها تحمل في طياتها مخاطر الانزلاق إلى مواجهة محدودة أو نزاعات بالوكالة إذا تعطلت سبل العودة إلى طاولة المفاوضات.
ندرك أهمية الرهانات والتجاذبات حول هذه الممرات المائية إذ يمر عبر مضيق هرمز حوالي 85 في المئة من صادرات النفط الخام إلى الأسواق الآسيوية، كما يعبره ما يتراوح بين 30 إلى 40 في المئة من النفط المنقول بحرا على مستوى العالم، كما تعبره ما بين 20 و30 ناقلة نفط يوميا، مع العلم أنه في العام 2017 عبره نحو 17.2 مليون برميل من النفط يوميا، وفِي الإجمال خمس إنتاج النفط الإجمالي يمر من هناك.
ويوم الجمعة التاسع عشر من يوليو تفاقمت “حرب ناقلات النفط” مع احتجاز الحرس الثوري الإيراني لناقلة نفط بريطانية، وبعد روايات إيرانية متناقضة أقر رئيس البرلمان الإيراني الدكتور علي لاريجاني أن الاحتجاز كان ردا على “القرصنة البريطانية” في إشارة إلى قيام البحرية الملكية في وقت سابق باحتجاز ناقلة نفط إيرانية في مضيق جبل طارق تنفيذا لقرار الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على سوريا. ولا يعد مفاجئا تصرف الحرس الثوري الإيراني الذي أتى بعد يوم على تصريح للمرشد الأعلى علي خامنئي باتخاذ قرار الرد على احتجاز ناقلة النفط الإيرانية.
في هذا الإطار يبدو أنه بالقياس مع حرب الناقلات السابقة بين 1984 و1988 أن البحرية الإيرانية وخاصة البحرية التابعة للحرس الثوري أصبحت أكثر جاهزية للقيام بما يعتبره البعض شبيها بأعمال القرصنة في عرض الصومال. لكن الخطورة أن هذه الأعمال تعيد التركيز على الحيوية الاستراتيجية والتجارية لهذه المنطقة في عالم اليوم.
نشهد إذن اختبارا للقوة بين واشنطن وطهران، ويبدو أن هامش المناورة غير محدود عند اللاعب الإيراني المراهن على الارتباك الغربي وعلى عدم وجود قرار بالحرب عند الرئيس دونالد ترامب، مع اكتفاء واشنطن بالتخطيط لتحالف دولي يضمن أمن الطرق البحرية والملاحة في الخليج.
مقابل تعثر أو تأخر تنفيذ المشروع البريطاني القاضي بإنشاء قوة أوروبية للأمن في الخليج، يبدو التحالف العسكري تحت قيادة واشنطن الأكثر جدية وفي طور البلورة العملية.
بالرغم من أن مبادرة بريطانيا تقضي بتحرك أوروبي مستقل ومحصور الهدف، تبدو المقاربة الأوروبية متكاملة بشكل غير مباشر مع المقاربة الأميركية لأن تعزيز الحشد الدولي في الخليج مرفوقا بانتشار سفن حربية ومدمرات وطائرات يحرج إيران ويضيّق خياراتها.
تخشى إيران من “عسكَرة” الخليج وملئه بالقوات، وربما لا تنكفئ بل ترتكب الخطأ القاتل كما حصل عشية “معركة الفرس” مع البحرية الأميركية في سنة 1988، يمكن لإيران المراوغة واستخدام الألغام البحرية والزوارق السريعة لاستمرار عرقلة الملاحة وتقوم كذلك بتمرير رسائل مثل تجربة إطلاق صاروخ باليستي إيراني في 24 يوليو حسبما أفادت وسائل إعلام أميركية. وبينما تعول إيران على ما تسميه قدرات استثنائية لبحريتها وتفوق تكتيكي، تدفع واشنطن نحو تنظيم تحالفها وإدماج الأوروبيين به. وهذا الوضع يمكن أن يتدحرج إلى اشتباك في منطقة ضيقة جغرافيا ومسرح عمليات جاهز إذا تخلله انزلاق أو خطأ قاتل بالرغم من عدم وجود قرار بالحرب لدى الأطراف المعنية.
في هذه الأثناء ظهرت مؤشرات على تراجع المشروع الأوروبي بصورته الواسعة، إذ قال متحدث باسم الخارجية الألمانية إنه “من السابق لأوانه الحديث عن أشكال محتملة لمشاركة ألمانية”. وقالت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، إن الهدف ليس “تشكيل قوة يمكن النظر إليها كقوة تفاقم التوتر”.
في مطلق الأحوال، بدت إيران متحفظة ومتشددة إزاء أي مشروع خارجي لبناء قوة بحرية لحماية أمن الملاحة في الخليج، لأنها تتمسك بالتحكم في أمن الممرات الدولية مع طرحها إقامة “تحالف سياسي وأمني مع جيرانها لضمان الاستقرار والأمن في المنطقة”!
وبرزت في السباق الدبلوماسي المحموم المبادرة الروسية لتحقيق أمن واستقرار الخليج والشرق الأوسط، وهي تقوم على جملة إجراءات منها «إبرام اتفاقات للحد من الأسلحة، وإنشاء مناطق منزوعة السلاح، وحظر تكديس الأسلحة التقليدية المزعزعة للاستقرار، والالتزام بالشفافية المتبادلة في المجال العسكري، والحوار بشأن العقائد العسكرية، وإنشاء خطوط ساخنة» ووضع أسس لبلورة نظام إقليمي مستقر.
كل هذه المشاريع والمبادرات الأمنية تصطدم بحائط الرفض الإيراني. وتشكو هذه المبادرات من تشكيك أميركي في فعالية أي تحرك أوروبي طالما لا يتكامل مع التحرك الأميركي في المنطقة. وفي المقابل هناك حرص أوروبي على التأكيد بأن التحالف الأمني لا يتعلق بحملة الضغط على إيران، بل يركز على حرية الملاحة.
وحسب مصادر دبلوماسية هناك تحفظ خليجي عربي على “رؤية موسكو” لأنها بحاجة إلى عمل طويل لإنضاجها خصوصا أنها “تتجاهل التجاوزات الإيرانية ومساعي زعزعة الأمن الإقليمي من جانب طهران، ولأنها تسعى إلى وضع تصور بعيد المدى لتسوية أزمات المنطقة، بينما تحتاج المنطقة إلى خطوات عاجلة وسريعة لنزع فتيل التوتر ووقف التجاوزات من جانب إيران”. في المقابل، يرى مصدر روسي أن “الوضع خطر للغاية، وبما يكفي أن يتسبب خطأ واحد في نسف كل شيء”.
والأدهى أن المحاولات السياسية في مأزق والدليل ما تسرب عن محادثات محمد جواد ظريف الأميركية حيث تبين أن الشروط والشروط المضادة لا تسمح باستئناف التفاوض (علما أن أملا في أن يأخذ الجانب الإيراني عرض ترامب لاستئناف التفاوض من دون شروط ساد لبعض الوقت في العاصمة الأميركية) من هنا أي خطأ غير مقصود أو عمل غير محسوب بدقة يمكن أن يسبب حربا أو مواجهة.
يتضح في الخلاصة أن التعرض لسلامة الملاحة في الخليج يمكن أن يشكل شرارة النزاع وليس هو عامل ردع في وجه استراتيجية أقصى الضغوط الترامبية. ولذا فإنه إذا لم تحصل متغيرات على المشهد، يتأكد حتى إشعار آخر الاضطراب الاستراتيجي العالمي والمأزق السياسي في الخليج ومجمل غرب آسيا وشرق المتوسط وصولا إلى بحر اليابان ومضيق كيرتش.