طفت على السطح مؤخرا بعض أجزاء حطام العلاقات بين الولايات المتحدة وحكومة العراق التي كما تبدو قد تعرضت لصدمة كبيرة في مايو الماضي استدعت ذلك الحضور المفاجئ لوزير الخارجية مايك بومبيو عندما قطع زيارته إلى أوروبا وتوجه إلى بغداد للقاء رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي بناء على معلومات طارئة وصفت بأنها تتعلق بتهديد وشيك للمصالح الأميركية في العراق من قبل الميليشيات التابعة للحرس الثوري.
تخفيض أعداد الموظفين في السفارة الأميركية ببغداد إلى 15 موظفا فقط، وإدراجه ضمن الإجراءات الدائمة وليست الاحترازية المؤقتة، كانت تعبيرا آخر عن عملية إجلاء واسعة دخلت حيز التنفيذ بعد إطلاق الميليشيات لصاروخ الكاتيوشا باتجاه السفارة الأميركية عقب زيارة بومبيو وتعهد رئيس الوزراء له بما يبدد القلق الأميركي من أيّ خروقات أمنية.
لكن التطمينات والوعود والتعهدات لم توقف إطلاق الصواريخ على قاعدة بلد أو التاجي أو القصور الرئاسية في الموصل أو نحو العاملين في شركة أكسون موبيل النفطية في البصرة وعلى طريقة الرسائل القصيرة المعتمدة في توصيل البريد الإيراني داخل العراق، أي بإعلام المناورة والنفي وتوفير الحماية والنأي بالنفس والحياد في الصراع أو بإصدار الأمر الديواني لدمج هيئة الحشد بالقوات النظامية لحصر السلاح بيد الدولة والسيطرة على السلاح المنفلت؛ الأمر الديواني من المفترض أن ينفذ في اليوم الأخير من يوليو الحالي، إلا أن بعض الفصائل ما زالت ترفض الانصياع رغم الغطاء الاستراتيجي الذي يوفره الدمج بالقوات النظامية ولو من الناحية الشكلية.
الأزمة تكمن في التوجيهات الإيرانية التي لا تريد حتى أن تداري المواقف الرسمية المعلنة لحكومة العراق، وهي لا تكتفي بالميول الإعلامية أو مستوى الإحراج لدى الرئاسات الثلاث بل إنها تذهب بعيدا في فرض إرادتها لتقول إن العراق جزء من إيران وإن معادلة الاحتلالين انتهت بإعلان ارتهان السلطة السياسية والاقتصادية والأمنية لولاية الفقيه.
الولايات المتحدة عثرت على الصندوق الأسود الغارق من حطام علاقاتها مع حكّام العراق، وبعد تحليل المعلومات تأكد لها أن الطائرات المسيرة التي استهدفت شركة أرامكو في المملكة العربية السعودية انطلقت من العراق، والأدهى أن الأوامر صدرت لحظة انطلاق الطائرات المحملة بالعتاد بمنع حركة الملاحة في الأجواء العراقية.
الطائرات المسيرة الإيرانية الصنع كانت بعض نتاج هزيمة قوات الخميني في الحرب ضد العراق؛ الإحساس بالهزيمة يصنع الكثير للتعويض انتقاما واستعدادا له، وهذا ما فعله نظام الملالي عندما ارتكب مجزرته بحق سجناء الرأي عندما أعدم أكثر من ثلاثين ألف سجين في الأشهر التي تلت نهاية الحرب، وكذلك تسخيره لمعظم موارد وثروات إيران لغايات التسلح والإرهاب وتصدير مشروع الثورة.
تجارب النماذج الأولى كانت في خرق سيادة العراق والمضادات أسقطت العديد منها وبالوثائق رغم معاهدة وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات بين الطرفين؛ الجانب الأميركي لا يخفي قلقه من دور المراقبة الذي تلعبه الطائرات المسيرة الإيرانية لحركات القوات الأميركية؛ إضافة إلى اتهامات تطال هذه الطائرات بافتعال الحرائق في حقول الحنطة والشعير أثناء موسم الحصاد وذلك بإلقاء مواد مشعة تتفاعل بعد مدة مع حرارة الشمس لتتوقد في أماكن وتوقيتات مختلفة.
الانسحاب الدبلوماسي من السفارة الأميركية في بغداد أهميته في احتمالية اتخاذ القرار بانسحاب سياسي من العراق، وهو ما تردد صداه في مجلس الشيوخ الأميركي أثناء جلسة استماع موجهة إلى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع، جلسة تضامنت فيها أصوات الحزب الديمقراطي مع الحزب الجمهوري للاستفسار عن أسئلة محددة تخص أوضاع العراق في حالة الانسحاب الأميركي وهل سيترك تماما لتسيطر عليه إيران وماذا عن القوات النظامية وسيناريو معاد لانهيارها في الموصل؟
الإجابات أو التداعيات كانت سريعة في الأيام الماضية بعد تضارب الأنباء حول قصف المعسكر الإيراني للحرس الثوري في منطقة آمرلي حتى بما صدر عن الميليشيات ذاتها بعد الضربة أو ما تشذب منها بعد أيام إثر الإملاءات الواضحة؛ إلا أن الأجزاء الكبيرة الطافية من انعدام الثقة في النظام السياسي كانت في ما قاله وكيل وزير الخزانة الأميركية سيغال ماندلكر الذي أكد على أن المساءلة ستستمر بملاحقة المسؤولين الفاسدين في العراق؛ ثم جاءت تصريحات نائب الرئيس الأميركي مايك بنس التي تناولت عقوبات وزارة الخزانة الأميركية بحق عدد من الموالين لإيران الذين تمكنوا من الاستيلاء على الموصل. وقال بنس إن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام إرهاب النظام الإيراني واضطهاده لمواطنيه وتصديره العنف إلى جيرانه؛ واصفا الميليشيات في العراق بأداء دور داعش في ابتزاز العراقيين وإرهابهم مؤكدا أن قائمة أخرى من العقوبات ستطال عددا من قادة الميليشيات.
الإدارة الأميركية للرئيس دونالد ترامب عندما نبهت بطوارئ غرق العلاقات الأميركية مع النظام السياسي في العراق أثناء زيارة بومبيو أرادت أن تضع المسؤولين في صالة إنعاش لاستعادة وعيهم في طبيعة بناء علاقتهم مع ولاية الفقيه؛ لكن الصدمة التي تلقتها الولايات المتحدة كانت في الموت السريري للنظام الذي استسلم تماما لمصيره وتبعيته العقائدية للملالي تاركا رد الفعل لإدارة ترامب للتعامل مع السلطة في العراق كنظام خاضع بالمطلق لأهواء المرشد وحرسه وميليشياته.
العقوبات ضد المسؤولين المتورطين في استباحة الموصل تعني أن النظام الحاكم في العراق أصابته لعنة العقوبات التي عادة ما تبدأ بتجميد أو مصادرة الأصول الخاصة وتنتهي بتطويق النظام الذي أسرف على نفسه وعلى شعب العراق بالمحاصصة والطائفية والحزبية والفساد مهما كانت ذرائع تشكيل الحكومات بما فيها الترويج لحكومات تكنوقراط مستقلة.. زيارة بومبيو لبغداد وضعت سلّم طوارئ لحكام العراق ليهربوا من بناية النظام الإيراني التي على وشك السقوط؛ لكن من يستمع لصوت العقل وهو محاط بـ67 ميليشيا إيرانية؟