في الأشهر الأخيرة، تنامت أجواءُ استياءٍ سُنّية ممّا اعتُبر «قضماً متدرِّجاً» لموقع الطائفة داخل السلطة ولعبة السياسة والقرار. وسُمع في الأوساط السنّية، وحتى داخل تيار «المستقبل»، مَن يقول: «طفح الكيل»، وليس جائزاً الاستمرار في التزام الصمت.
المسألة ليست متعلقة فقط بما جرى أخيراً من تقليصٍ لموازنات المؤسسات التابعة مباشرة لرئاسة الحكومة، أو لتحميل الحريري المسؤولية عن تضخّم الهدر فيها، وخصوصاً لجهة عمليات التوظيف التي فاقت الحدود داخل «أوجيرو»، بل هي تشمل التعيينات المرتقبة في كثير من المؤسسات والمجالس والأجهزة الحسّاسة.
البعض يذهب أبعد من ذلك، فيربط بين هذا الاتجاه وقرار وزير العمل كميل أبو سليمان الخاص بتنفيذ القانون على العمال الفلسطينيين في لبنان. فيقول: إنه يأتي في سياق الضغوط على البيئة السنّية. فالحالة الفلسطينية هي جزء من الحالة السنّية في لبنان عموماً. حتى إنّ أوساطاً سنّية حذرت من عواقب استهداف الفلسطينيين بـ»قرارات ظالمة وتجويعية» تدفع بعضهم إلى الارتماء في أحضان الحالات المتطرفة أو الطوابير الخامسة ما يهدِّد السلم الأهلي.
هذه القراءة الإنفعالية لا تعكس الواقع. فالوزير أبو سليمان يمثّل «القوات اللبنانية» في الحكومة، لا «التيار الوطني الحرّ» الذي هو حالياً موضع الشكوى السنّية. ويجزم الوزير أنه ينطلق من مسلّمات تنفيذ القانون الساري المفعول، والمؤتمن عليه، من ضمن صلاحياته الوزارية لا أكثر. وقد شرح الأمر لكل المرجعيات التي استوضحته.
ولكن، هذه «النقزة» السنّية تبدو ردَّ فعل مبرَّراً ضمن نظام المنافع الطائفية والقوى السياسية- الطائفية المستفيدة منه. وإذا كان بعض السُنَّة يشعر اليوم بأنّ فريقاً مسيحياً يستهدفهم، فإنّ بعض المسيحيين سبق أن شعر بأنّ السُنّة والشيعة والدروز استهدفوه في السلطتين التنفيذية والتشريعية وفي الحياة السياسية عموماً، عندما كانت الأحزاب المسيحية مغيّبة عن الساحة فيما الآخرون يتنعّمون بالصفقة التي عقدوها مع سوريا.
طبعاً، كانت القوى المسلمة- هي أيضاً- تردّ على نظام الامتيازات الذي أداره زعماء الموارنة عقوداً طويلة. وجاء الطائف ليشكل أول عملية «انتقام» خفيّة من هذا النظام. لكن الطائف، بسبب عدم تنفيذ بعض بنوده وتنفيذ بعضها الآخر مشوَّهاً، لم يؤسّس لنظام العدالة، بل نقَل الظلم ليستهدف المسيحيين بعدما كان يستهدف المسلمين.
بعد انسحاب سوريا من لبنان عام 2005، ثم اندلاع الحرب فيها، أراد الشيعة حماية سلاحهم واستخدامه لوراثة النفوذ السوري. وهم حققوا ذلك إلى حدّ بعيد. واليوم، هم أصحاب القرار الأول في الدولة. وعندما يحاول «التيار الوطني الحرّ» توسيع الحضور المسيحي أو تعويضه، فإنما هو يستمدّ قوته من اصطفافه السياسي إلى جانب «حزب الله».
فقد عمد «الحزب» إلى تقديم الدعم لحلفائه من الطوائف الأخرى ليتمكنوا من توسيع نفوذهم. وأفضل نموذج هو دعمه الكثير من القوى السنّية في الانتخابات النيابية وإصراره على توزير سنّي من حلفائه في الحكومة الحالية. وأما على الساحة الدرزية، فبعد قضم حصص جنبلاط النيابية والوزارية، هناك محاولة قضم في التعيينات وكباش لكسر الحضور السياسي لمصلحة إرسلان.
لقد تعرَّض الحريري، كما جنبلاط، لعملية إضعاف مباشرة منذ بداية العهد، ترجمها قانون الانتخاب وتشكيل الحكومتين السابقة والحالية. وجاءت أزمة 4 تشرين الثاني 2017، لتدفعه إلى مزيد من الالتحام بشركائه المحليين في التسوية، وليس العكس. وأساساً، كانت هذه الأزمة ردّ فعل على نهج التنازل الذي اعتمده الحريري منذ اليوم الأول من عهد الرئيس ميشال عون.
فالحريري جاء إلى الصفقة- التسوية في 2016 مدركاً تماماً ما ستقود إليه، لكنه لم يستطع إلّا الموافقة. كان يعتبر أنّ خسائره في البقاء خارج السلطة أكبر بكثير من الخسائر المتوقعة داخلها. ففي الخارج كانت تتفكّك زعامتُه تدريجاً. وأما في الداخل فيمكن الحفاظ على الزعامة ضمن حدود مقبولة.
لكنّ الحريري الذي عاد إلى السراي ليس هو نفسه الحريري المقاتل ضمن 14 آذار. الحريري الثاني هادئ، يتحدث في الإنماء والاقتصاد والإدارة فقط، ولا يتجاوزها إلى أمور «ليست من اختصاصه». وأما السلاح والأمن وقرار الحرب والسلم فكلها متروكة لـ»حزب الله»، والمحكمة الدولية متروكة لنفسها.
في الترجمة، إستعاد الحريري الصفقة التي عقدها والده الرئيس رفيق الحريري مع السوريين: لكم شؤون الحرب والسلم والسياسة الكبرى ولي الاقتصاد والإنماء! وهذه التسوية كان لها ما لها، وعليها ما عليها.
ولكن، ما تغيَّر بين الصفقتين السابقة والحالية هو بعض التفاصيل الداخلية: في تلك المرحلة كان المسيحيون في موقع العداء لسوريا فاستُبعِدوا، وورث الآخرون مكتسباتهم. وأما اليوم فالمرجعية المسيحية في الحكم حليفة لـ»حزب الله»، فيما المحور السنّي خصمها الإقليمي.
ولذلك، لا يمانع المحور الإيراني في إعطاء «التيار» هامشاً واسعاً في التحرك على حساب الحريري، إلى أن يرفع الراية البيضاء وينضوي هو أيضاً في هذا المحور. وطبعاً، يستحيل حصول ذلك في شكل علني ومباشر. ولكن، يستطيع «الحزب» أن يراهن على استمرار الحريري في «بيت التسوية» حتى إشعار آخر.
اقتنع الحريري بما قُدِّر له من حصص نيابية ووزارية ونفوذ داخل السلطة. وهو يدرك أنّ «دوام النعمة» مرهونٌ بالتزامه السقفَ المحدَّد في تسوية 2016. وأحياناً، هو يلمس تناغماً بين أركان التسوية الآخرين على حسابه، كما حصل في جلسات الموازنة الأخيرة، ويشعر بأن لا مجال ليقول «لا».
وفي الفترات المقبلة، ستكون هناك استحقاقات تفرض عليه السؤال: ماذا أفعل؟ هل أنتفض فتفرط الحكومة ومعها التسوية التي أحاول المحافظة عليها «برموش العين» أم أمشي مع البلد، و»البلد ماشي»؟
البعض يراهن على رائحة «انفراط للحكومة» ربما تقترب. لكنّ آخرين يقولون: على الحريري أن يكون انتحارياً ليتّخذ هذا القرار… وهو ليس من هذا النوع!