كُتبت تفاصيل مجزرة 1958 في العراق في شهادات ومرويات كثيرة، خصوصاً قصة هرب رئيس الوزراء نوري السعيد في ثوب امرأة، ثم اكتشاف أمره بسبب حذائه الرجالي. وأجمعت الروايات على أن مهاجميه «قصَّبوه»؛ بدءاً بأعضائه الذكرية، قبل أن يعلقوا جثمانه المفرّغ على عمود كهرباء، انتصاراً للثورة المجيدة وقائدها الزعيم عبد الكريم.
هل كان هذا كل شيء؟ يبدو أن الثورات العربية لا تكتفي بالتقصيب. والقصّاب، كما هو معروف، هو اللحّام. فمن أجل أن تحقق الثورة أهدافها العظيمة، فلا بد من العظم أيضاً. ولذلك، دخلت التاريخ العربي برقية علي صالح السعدي الشهيرة: «اسحقوهم حتى العظم».
هل كان هذا كل شيء؟ عُرف عن الصحافي الفلسطيني الشهير ناصر الدين النشاشيبي صداقته للعائلة المالكة في العراق وتأييده «حلف بغداد»، الذي انقسم العرب حوله انقساماً شديداً. وبعد رحلة عمل في الأردن ولبنان وفلسطين، جاء ناصر إلى مصر وعمل في «الأهرام» و«أخبار اليوم»، ورئيساً لتحرير «الجمهورية»؛ جريدة الثورة.
كان ناصر بارعاً في كل شيء، متفوقاً في صنع العداوات في كل مكان. ووفق مذكراته الجذابة «الحبر أسود... أسود» صحيحها وأعذبها، على قاعدة «أعذب الشعر أكذبه»، فإنه طُرد من جميع الدول العربية، ولم يبقَ له سوى مصر. ثم عاداها وجلس في لندن وجنيف وباريس، يتأوّه على أيامها، ويكتب «مذكراته» عنها، وهي قائمة على قاعدتين: كم كان عبد الناصر يحبه، وكم كان محمد حسنين هيكل يكرهه ويغار منه.
توفي النشاشيبي في مدينته ومفخرته؛ القدس، عن 92 عاماً أمضاها في مصادقة الملوك والزعماء، ومن ثم في مهاجمتهم. لكن أكثر حملاته وأشدها تركزت على الصحافيين. ولم يترك صحيفة، أو صحافة عمل فيها، إلا وسرح في عدائها كما سرح من قبل في مديحها. وعمل في الديوان الأردني والجامعة العربية و«المكتب العربي» الفلسطيني. وحده الأخير نجا من قلم ناصر ولسانه وكرهه لكل من له نجاح وموضع وأسرة. والذين عرفوا مراراته يبررون له، أما الذين عرفوا مواهبه وجذوره وأصوله، فلا يسامحون.
في أي حال، تعرض ناصر خلال عمله في مصر لغيرة البعض وحسدهم، خصوصاً أعداء «حلف بغداد». وروى في «الحبر أسود... أسود»: «لم يمضِ أسبوع واحد على وجودي في القاهرة حتى دخل عليّ أحد محرري (آخر ساعة)... وفي يده مظروف... وكان المحرر المذكور قد عاد قبل ساعات من بغداد. وبحركة دراماتيكية، فتح المظروف بيده وأخرج قطعة من العظام البشرية. وصحت به صارخاً. ما هذا؟ فقال مقهقهاً: إنها قطعة عظم من جثة نوري السعيد».