أبطال تلك المسرحية، قوى سياسية وضع فرعها الوزاري الممثّل في الحكومة، هذه الموازنة بكل ما اعتراها من عِلل وشوائب وثغرات وعجز عن التصدي للأزمة الاقتصادية والمالية، وحتى تلمّس طريق الى المعالجات الجدية والجذرية.
وأمّا الفرع النيابي لهذه القوى السياسية، فنَصّب نفسه «حيادياً»، وقاربَ الموازنة كجلّاد لم يترك مفصلاً فيها الّا وانهال عليه ضرباً ونعتاً بأبشع الاوصاف، واعتبرها قاصرة ورقمية وبلا رؤية، ودون المطلوب أمام أزمة اقتصادية مستعصية. لكنه عند لحظة التصويت مَحا كلامه وألقى بانتقاداته في سلة المهملات، وعاد وانضمّ الى قطيعه، برفع اليد والموافقة ومنح الموازنة صوته بالصورة التي صَبّ هجومه عليها منذ يوم الثلاثاء الماضي!
إستنساخ
فالمداخلات النيابية التي صالَ وجال فيها 52 نائباً على منبر الهيئة العامة لمجلس النواب، لم تكن سوى لحظة منبرية لا اكثر، إستنسخت كلاماً مملاً من مداخلات سابقة، من العيار نفسه، ومن الوجوه نفسها، نَعت الموازنة وبكت على أطلالها، ولم تقدّم للمواطن اللبناني، ولو فكرة جديدة حول كيفية الخروج من الأزمة.
وأمّا التصويت فلم يخرج عن سياق ما كان متوقعاً، بحيث تمّ التصديق على الموازنة بنحو ثلثي أعضاء المجلس، وهي أكثرية طبيعية وفّرتها الكتل النيابية الكبرى الممثلة في الحكومة، مقابل انقسام واضح في صَف المعترضين، بين فريق جاهَر بالتصويت الاعتراضي علناً، وبين فريق قرّر اعتماد «نصف معارضة»، إمّا بالامتناع عن التصويت، وإمّا بالغياب عن الجلسة او بالإنسحاب لحظة التصويت.
ولعلّ ما لفت الانتباه انّ الصورة النيابية والحكومية لم تخرج سليمة من جلسة الموازنة في المجلس النيابي، بحيث حكمت مناقشة بنود المشروع، التي امتدّت على مدى 6 ساعات لإقراره مساءً اعتباراً من الثالثة بعد ظهر امس، أجواء عاصفة وتوترات وسجالات وصخب نيابي حول العديد من البنود، في موازاة أجواء عاصفة أيضاً كانت تواكب هذه المناقشات عبر اعتصام العسكريين المتقاعدين الذي كان صاخباً في ساحة الشهداء، وتخللته هتافات عَلا صوتها على النقاشات النيابية، ومناوشات مع القوى الامنية المولجة حماية المنطقة.
واذا كان رئيس الحكومة قد تحدث بعد إقرار الموازنة عن إنجاز تحقق، ولكن من دون أن يوحي بانفراج سياسي على صعيد عودة الحكومة الى الانعقاد، فإنّ السؤال المطروح في مختلف الاوساط هو: ماذا بعد؟
مع انفضاض جلسة الهيئة العامة، يمكن اعتبار انّ صفحة الموازنة قد طويت، لتفتح بعدها صفحة ثانية، فالقراءات السياسية لمرحلة ما بعد الموازنة، تُجمع على وضع حكومي هشّ ومُنهك، وانّ الاولوية هي لإعادة لملمة الحكومة.
الحريري
وفي هذا السياق، قالت أوساط قريبة من رئيس الحكومة سعد الحريري لـ»الجمهورية»: انّ عودة الحكومة الى الانعقاد هي اولوية قصوى لدى رئيس الحكومة.
الّا انّ تلك الاوساط لم تؤكد او تنفِ إمكان عقد جلسة لمجلس الوزراء الاسبوع المقبل، وقالت: الرئيس الحريري يدرك حجم الازمة، والهَم بالأساس بالنسبة اليه هو ان يرتاح البلد، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، وايضاً على المستوى السياسي، وأي توتر لا يخدم أحداً. لقد سبق للرئيس الحريري ان طلب تأجيل انعقاد مجلس الوزراء تجنّباً لحصول اي توترات في مجلس الوزراء جرّاء الحادثة، ولكن في مجمل الاحوال، الحكومة يجب ان تجتمع، ولا يجوز ان تبقى في حال عدم انعقاد وهو لا يقبل بذلك على الاطلاق، ولطالما أكد ويؤكد انه لا بد ان يتحمّل الجميع المسؤولية، نظراً لظروف البلد على كل المستويات.
ورداً على سؤال، أشارت الاوساط الى انّ الحريري هو جزء أساس في حركة الجهود التي تحصل لتهدئة الامور وتنفيس الاحتقان الذي حصل في الفترة الاخيرة إثر حادثة الجبل، والمهم هو التوصّل الى حل.
وحول ما يقال انّ جهود حلحلة تداعيات حادثة قبرشمون معطلة عند عقدة تسليم المطلوبين، ذكّرت المصادر بموقف رئيس الحكومة الذي شدّد فيه على انّ الصراخ السياسي لا يفيد ولا يوصِل الى نتيجة، والمطلوب هو ان يكون هناك تنازل من قبل الجميع.
عون وبري
يتقاطع موقف الحريري مع تأكيد متجدّد لرئيس مجلس النواب نبيه بري على وجوب إخراج الحكومة من حالة الاضراب التي تبدو فيها. والانصراف الى متابعة شؤون البلد، التي لا يجوز أبداً ان تتعطّل. ويتقاطع ايضاً مع موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، حيث عكست مصادر وزارية في تكتل لبنان القوي لـ«الجمهورية»، انّ الرئيس عون يحثّ على انعقاد الحكومة، ويؤكد على معاودة مجلس الوزراء استئناف جلساته، خصوصاً انّ الملفات تتراكم، ولبنان أمام استحقاقات داهمة وخاصة على المستوى الاقتصادي.
إقتصادياً
امّا على الصعيد الاقتصادي، ففي رأي الخبراء الاقتصاديين انه بعد إقرار الموازنة لن تكون المشكلة محصورة بمسألة عدم القدرة على الالتزام بأرقام العجز الواردة فيها، بل قد تتعداها الى ما هو أشد تعقيداً. فهناك حالياً 3 نقاط عالقة تنتظر التوضيح، وعلى أساسها قد يتبين الخيط الابيض من الاسود:
أولاً - كيف سيتم التعاطي مع الموازنة من قبل الدول المانحة والمُقرضة المساهِمة في مؤتمر «سيدر»، خصوصاً بعدما قالت المؤسسات المالية الدولية الخاصة وتلك التابعة للامم المتحدة كلمتها في هذا الموضوع، وأجمعَت على انّ أرقام العجز الواردة في الموازنة غير دقيقة، وانّ العجز الحقيقي سيكون أكثر ارتفاعاً من التقديرات الواردة في الموازنة؟
ثانياً - كيف ستتم معالجة ثغرة خفض كلفة الدين العام والتي كانت تستند الى مسألة الاكتتاب بفائدة 1 في المئة، بعدما تبيّن انّ مصرف لبنان لم يعد قادراً على تنفيذ هذه العملية.
ثالثاً - ما هي فرَص الرافضين للموازنة في إسقاطها في حال لجأوا الى الطعن بها أمام المجلس الدستوري؟ مع الاشارة هنا الى دعوات مباشرة من قبل بعض الوزراء وجّهت الى العسكريين المتقاعدين، حَثّتهم على اللجوء الى المجلس الدستوري.
وفي موازاة هذه الملاحظات، هناك سؤال أساسي: هل انّ بنية موازنة 2020 وهيكليتها ستكونان على غرار موازنة 2019، بما يعني استمرار النزف ومواصلة مسيرة الانحدار، أم سيكون هناك نهج مختلف يتماهى وخطورة الوضع؟
خبراء
وهنا تتقاطع آراء الخبراء الاقتصاديين بأنّ الموازنة لن تكون قادرة على إقناع الخارج والمؤسسات المالية الدولية بأنها قادرة على وضع الاقتصاد اللبناني على سكّة المعالجة الصحيحة، خصوصاً انّ تخفيض النفقات فيها تمّ بصورة بدائية، تفتقد الى الاصلاحات المطلوبة. علماً انّ الملحّ هو إصلاحات هيكلية تؤدي الى استعادة ثقة الخارج بلبنان، وكذلك الثقة بالحكومة اللبنانية، وقبل كل شيء استعادة ثقة المواطن اللبناني بحكومته، التي لم تقدّم في موازنتها، سوى بعض المسكّنات للمرض الاقتصادي العضال. ومن دون ان تقارب باباً إصلاحياً، او أيّاً من أبواب الفساد والهدر والتهريب بأي إجراءات او تدابير جدية لمكافحتها.
وبحسب الخبراء فإنّ موازنة 2019، استجابت لـ«سيدر» فقط من باب تخفيض العجز، لكنها مع ذلك لن تشكّل مفتاح باب التقديمات المنتظرة منه. الّا انها، كما يقول بعض هؤلاء الخبراء، يمكن اعتبارها اساساً يُبنى عليه بالنسبة الى موازنة 2020، التي يفترض ان تشكّل القاعدة التي يفترض أن ترتكز عليها تقديمات سيدر.
خليل
في هذا الوقت، أثنى وزير المال علي حسن خليل على الجهد الذي بُذل، أكان في الحكومة او مجلس النواب، وأفضى في نهايته الى إقرار الموازنة.
وقال خليل لـ«الجمهورية» انّ ما تحقق أمر مهم جداً. ومع ذلك، فكما سبق وأكدنا انّ هذه الموازنة في الاساس لا ترضي طموحاتنا بموازنة إنقاذية يتطلبها الوضع اللبناني، الّا انها بالصيغة التي أقرّت فيها تبقى أفضل الممكن، ويمكن اعتبارها تأسيسية يُبنى عليها الى الافضل مع موازنة 2020.
وخلافاً لكل ما قيل حول موازنة 2019، وما تعرضت له من انتقادات ومزايدات في جلسة مناقشتها في مجلس النواب، فإنّ وزير المال ما زال يأمل في ان تحدث صدمة إيجابية على المستوى الداخلي، «خصوصاً اننا حققنا فيها إنجازاً بالغ الاهمية تجلّى في تَمكننا من تخفيض العجز من سقف يزيد عن 11 في المئة الى حدود 7 في المئة، وهذا ما سيكون هدفنا الاساس في الموازنة المقبلة لتخفيض إضافي ونمو أكبر».
وأكد خليل «انّ الاولوية حالياً هي الانطلاق سريعاً نحو إعداد موازنة 2020 في أسرع وقت ممكن وضمن المهل القانونية الدستورية، وكما سبق وقلت ستشكّل موازنة 2019 مرتكزاً لها، مع تدابير جدية وإصلاحية ليس فقط لتحقيق وَفر ومزيد من التخفيض في نسبة العجز، بل لتحفيز الدورة الاقتصادية، بما يَضع لبنان على سكة الانتظام الحقيقي اقتصادياً ومالياً، والانفراج، والنمو المتصاعد. وبالتالي الخروج من الأزمة التي يعيشها.
ولفتَ الوزير خليل الى انّ وزارة المالية، وفور الانتهاء من مشروع موازنة 2019 وإحالته على مجلس النواب، توجّهت نحو إعداد مشروع موازنة 2020، وقد صدر تعميم الى الإدارات والمؤسسات العامة وكافة الهيئات والمجالس والصناديق ذات الموازنات الملحقة، طلب منها بموجبه إيداع وزارة المالية مشروع موازناتها للعام 2020. وبالفعل، فإنّ وزارة المالية انتهت من مناقشة أرقام الوزارات لموازنة 2020، وبُدِىء في إعداد المواد القانونية.