ما صَدم «القواتيين» في المجلس النيابي هو أنّ الضربة جاءتهم من حيث لم يتوقَّعوا، أي من آلان عون، النائب المحسوب «معتدلاً» والمحبوب «قوّاتياً» أكثر من «آخرين». وفي رأي بعض «القواتيين»: «كأنه مكلَّف شخصياً فتح المواجهة وإيصال رسالة مفادها أن لا مهادنة بعد اليوم في المعركة مع «القوات»، ولا أحد في «التيار» إلّا وسينخرط فيها.
ويواكب هذا المناخ احتقانٌ يتنامى بين طرفي «تفاهم معراب»، إلى حدود عالية جداً. ففي الساعات الأخيرة، بدأت «الماكينات» الحزبية هنا وهناك تتبادل اتهامات بتدبير حملات منظّمة يشنّها البعض لتشويه صورة جعجع أو باسيل. وتشارك في الحملات جيوش منظمة من المحازبين والمناصرين وجهات «غير واضحة الهوية» على مواقع التواصل، يقوم بعضها بصبّ الزيت على النار كلما تراجعت.
عندما يتصارع الزعيمان المارونيان الأقوى، تكون المشكلة دائماً في انعدام الوسيط. واليوم، ليس هناك أي طرف مسيحي قادر على الاضطلاع بدور إطفاء الحريق… عدا عن أنّ هناك قوى مسيحية تتطلع إلى خلاف جعجع - باسيل في اعتباره فرصة لإعادة خلط الأوراق والتوازنات على الساحة المسيحية.
وكذلك، المرجعية المسيحية السياسية، أي رئاسة الجمهورية، ليست مستعدة للتدخل لأنها متضامنة بالتأكيد مع أحد الطرفين. والمرجعية الدينية، أي البطريركية المارونية، ليست قادرة على ممارسة دور ضاغط يمنع الطرفين من مواصلة المواجهة. والتجارب هنا كثيرة ومريرة.
لقد تعرَّض «تفاهم معراب» لاهتزازات عنيفة منذ إبرامه، ولكن الطرفين كانا يُظهران رغبة في «دوام الارتباط»، على الأقل أمام أعيُن الناس. ولكن، للمرّة الأولى يبدو أنهما قرّرا إبلاغ الناس بأنهما وصلا إلى الطلاق، غير مأسوف على زواجهما الذي ما عاش حتى انتهاء «شهر العسل».
في الأوساط «القواتية» يقولون: «يكفي ما قاله باسيل عن جعجع في طرابلس لإثبات أنّ الرجل يتقصَّد تحطيم «التفاهم» وقطع كل الجسور التي بُنيت سابقاً». وتسأل: «ما مبرِّر استعانته بجريمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي ولماذا أعاد إلصاقها بنا، على رغم أن لا مناسبة لهذا الكلام؟ بل لماذا استدعى ذكرى حرب الجبل أمام محازبيه في طرابلس؟». وتضيف: «هو فعل ذلك ليبرِّر المأزق الذي أوقعَ فيه نفسه وأهل الجبل، والذي كلَّف دماً، بسبب زيارته المثيرة للجدل والاستفزازات التي تتسبَّب بها. ولكن، وبمعزل عن الخلاف في السياسة، أليس حراماً اللعب بالنار واستثارة الضغائن بين المسيحيين واللبنانيين عموماً، من أجل مكاسب صغيرة؟».
لكن «التيار» يعتبر أنّ باسيل يخوض حرباً وقائية. ويُقال: «مَن طعن «التفاهم» في الصميم، منذ بداية العهد، هو جعجع. فهو يعمل من خلف الستارة، مع القوى المتضرِّرة من العهد القوي، لتقويضه وإعادة المعادلة إلى ما كانت عليه سابقاً، أي عندما كان موقع رئاسة الجمهورية ضعيفاً وعديم التأثير في القرارات الوطنية. ونحن مضطرّون إلى الدفاع عن أنفسنا عملاً بالقاعدة القديمة «إذا أردتَ السلم فاستعدّ للحرب»!
في العمق، يبدو الطرفان في سباق مع الوقت. وتزداد حماوة المواجهة بينهما مع ضيق الوقت. فالعهد يدخل المقلب الثاني. ويريد جعجع أن يحضّر الأرضية لقلب الأوراق في العهد المقبل. وأمّا باسيل فيعمل لتكريس المعادلة الحالية، أي «مدّ العهد»، ليصبح هو في موقع الرئاسة امتداداً طبيعياً للرئيس ميشال عون. وسيحاول كل منهما استخدام الأوراق المتاحة واستجماع الحلفاء من أجل تحقيق الهدف.
واضح أنّ تركيبة باسيل هي الأقوى حالياً، فكامل العدّة موجودة: التحالف مع الحريري ودعم «حزب الله» وموقع رئاسة الجمهورية وغالبية وازنة نيابياً وحكومياً، وثقلٌ في المؤسسات والأجهزة ذات التأثير. وهذه التركيبة مكتوب لها الاستمرار إلى مدى غير منظور.
يعرف جعجع ذلك. لكنّ المواجهة التي يخوضها ليست سهلة لأنّ «نادي المتضررين» من باسيل «فارط». فلا شيء يجمع «القوات» وجنبلاط وحزب الكتائب وفرنجية. ولا «أمل» لهؤلاء في الحصول على رعاية من الرئيس نبيه بري، شريك «حزب الله» الموثوق فيه. وينظر كل من «أعضاء النادي» إلى الآخر بتشكيك أو استضعاف، ولكل منهم «أجندة». والتجارب أكدت أنّ الواحد منهم يترك الآخرين «على الكوع».
ليس سهلاً على جعجع أن يفكّر أنّ عليه العيش 9 سنوات أخرى (3 من عون و6 من عهد باسيل) في ظل عهدٍ «يطلب رأسه» سياسياً. سيكون ذلك بالنسبة إليه مغامرة خطرة، وإن كان قد خاض تجربة أقسى وأطول، هي السجن 11 عاماً.
في المقابل، يعرف باسيل أنّ السيطرة على السنوات الـ6 تبدأ الآن، وأن من الخطأ الاسترخاء وإضاعة الفرصة التي أتاحتها تسوية - صفقة 2016، والتي سيُكتب لها الاستمرار على الأرجح. ولهذه الغاية، لا بدّ من «قطع الرؤوس» التي ستحاول العرقلة (سياسياً طبعاً)، والمقصود تحديداً جنبلاط وجعجع.
إذاً، شعار المرحلة بين جعجع وباسيل هو «يا راسي يا راسَك»! لكنّ باسيل يفضِّل شعاراً آخر، مكفولاً أكثر ربما، هو: «بيّي أقوى من بيَّك»!