الأتراك يخشون أن تتحول بلادهم إلى نسخة من إيران، دولة منغلقة ومارقة.
بينما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يفتتح متحف “الذاكرة 15 يوليو”، في الجانب الآسيوي من إسطنبول، بمناسبة ذكرى التصدي لمحاولة الانقلاب الفاشلة ليلة 15 يوليو عام 2016، كان أغلب الأتراك منشغلين بمتابعة الأخبار العاجلة التي تأتيهم كل مرة بخبر عقوبة جديدة ستسلط على تركيا بسبب سياسات أردوغان.
يستمد أردوغان قوته من صلاحياته المطلقة في الداخل، والتي تكفل له كل سبل القمع والتحكم في السياسة الداخلية، فيما يراهن على مستوى الخارج على روسيا والصين، وحتى إيران، وغيرها من الدول التي تظهر، أحيانا، خلافا مع السياسة الأميركية أو تسعى إلى اختراق النظام العالمي. كما يراهن على انقسام أوروبي يضعف داخليا القرار الأوروبي العام.
بداية النهاية
بدأت قاعدة التذمر الداخلي تتوسع في تركيا من سياسات الرئيس التركي الذي يعيش وفق عدد من المنتقدين، في عصر غير هذا العصر، فيما يقول آخرون إن تمسكه باستعادة مجد الإمبراطورية العثمانية جعله يتصرف وكأنه “سلطان” فعلا، حيث يعيد أردوغان أسلوب العثمانيين القدامى في التوسع دون مراعاة لاختلاف الوضع، الأمر الذي يوسع دائرة ورطاته الخارجية، بما يعود بالعقوبات على الداخل.
ويشبّه الخبراء ما يجري في تركيا بفترة انهيار الإمبراطورية العثمانية. ويتطلع الأتراك بحذر إلى سياسات أردوغان التي تذكرهم بمرحلة تاريخية كانت فيها بلادهم سبب صراع بين العديد من الدول، منها بريطانيا وفرنسا وروسيا من أجل تقاسم ثرواتها. واليوم، لا يختلف الوضع في بعض جوانبه، خاصة أن علاقات تركيا في الفترة الماضية شهدت مدا وجزرا مع الدول التي تراهن على التحالف معها اليوم، خاصة روسيا.
ويرى الكاتب التركي إرغون باباهان أن التاريخ يعيد نفسه في تركيا. ويوضح قائلا “تركيا أصبحت مجددا رجل أوروبا المريض، فالاقتصاد ينهار، وبتنا دولة تحوم الشكوك حول قوتها العسكرية؛ لاسيما بعد المحاولة الانقلابية التي شهدتها البلاد يوم 15 يوليو 2016. وحينما وصفت الدولة العثمانية في السابق بـ’رجل أوروبا المريض’، كانت الإمبراطورية العثمانية منتهية تماما”.
ويذهب في ذات السياق سنان سيدي، عضو في مجلس المساهمين في مركز ستراتفور للدراسات الاستراتيجية والأمنية، مشيرا إلى أن التطورات السياسية الأخيرة قد تمثل بداية نهاية حكم أردوغان. ويتخذ سيدي من انتخابات بلدية إسطنبول مؤشرا على ذلك.
الأزمة في الداخل
يواجه أردوغان تحديات مزدوجة على مستوى السياسة الداخلية كما العلاقات الخارجية ضمن أزمة تتسع حلقاتها وتترابط بشكل لن يكون من السهل الفصل بينهما، حيث تلقي تداعيات السياسة الخارجية على الوضع في الداخل. وأضحى الأتراك يشعرون بوطأة أزمة اللاجئين وتورط تركيا في الحرب في سوريا والعلاقات المتدهورة مع دول الجوار الأوروبي ودول الإقليم العربي والمتوسطي وصولا إلى الأزمة مع الولايات المتحدة والعقوبات الأميركية والأوروبية المنتظرة.
ووجد الأتراك في الانتخابات البلدية فرصة للتعبير عن غضبهم ورفضهم لسياساته التي ستعيد تركيا إلى مربع الأزمة الاقتصادية التي شهدتها قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، والتي كانت في جزء منها أحد أهم أسباب صعوده في سنة 2002.
وفعلا، يخشى أردوغان أن تؤثر هذه النتيجة على مستقبله، خاصة في ظل التمرد الحاصل في صفوف أنصاره وداخل حزبه. ويقول سنان سيدي، إن أكرم إمام أوغلو، الفائز برئاسة بلدية إسطنبول، أصبح يتمتع بشعبية يمكن أن تضعه في مواجهة أردوغان في الانتخابات العامة المقرر إجراؤها خلال سنة 2023.
وتمنح السنوات الأربع المقبلة لأردوغان فرصة للتركيز على إعادة بناء صورته وقاعدة داعمي حزب العدالة والتنمية. ويجب عليه أن يعمل على ضمان نمو اقتصادي قوي إذا أراد تحقيق مبتغاه قبل نهاية هذه المهلة التي تفصله عن الامتحان القادم.
يعتبر الانكماش الاقتصادي الحاد في تركيا كعب أخيل أردوغان، مما قد يعني تحوله خلال الأعوام الأربعة المقبلة للعمل على تقويض رؤساء بلديات المعارضة المنتخبين حديثا في إسطنبول وفي العاصمة أنقرة وغيرهما، حتى يعتقد الناخبون أن حزب العدالة والتنمية هو الوحيد القادر على إدارة تركيا.
لكن، لن يكون الأمر سهلا، حيث توجد العديد من المتغيرات في الساحة السياسية التركية، وقد تؤدي أي واحدة (أو مزيج منها) إلى تدمير سلطة أردوغان وإنهاء مسيرته السياسية. يأتي على رأس هذه المتغيرات الانشقاقات الحاصلة في صفوف الإسلاميين.
وقد يظهر هذا التأثير بشكل جلي خلال الانتخابات، حيث يفرض نظام الانتخابات الرئاسية في تركيا على الفائز تأمين نصف عدد الأصوات على الأقل (زائد واحد). وتمكن أردوغان من الفوز بالرئاسة عندما تحالف مع حزب الحركة القومية، لكن، حتى إذا استمر هذا الدعم، فمن المحتمل أن يفشل تحالف الحزبين في الوصول إلى عتبة الخمسين بالمئة سنة 2023.
وفي الوقت نفسه، قاد حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي كتلة ناجحة من الناخبين. وتشمل الكتلة رسميا حزب “الصالح” الذي تتزعمه ميرال أكشنار، والذي يتكون من المنشقين الذين انفصلوا عن حزب الحركة القومية. ومن جهة غير رسمية، يدعم حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد هذه المجموعة.
وأيدت الغالبية العظمى من المنتمين إلى الحزب في إسطنبول إمام أوغلو بعد أن شجعهم رئيس الحزب الكردي المسجون، صلاح الدين دميرطاش، على ذلك. في المستقبل القريب، يمكن أن يصبح الناخبون الأكراد في تركيا أكثر ارتباطا مع حزب الشعب الجمهوري، مما سيخلق كتلة هائلة ستؤدي إلى تآكل قاعدة حزب العدالة والتنمية.
أمام هذا الوضع، ولشعورهم بضعف أردوغان، يستعد المسؤولون السابقون في حزب العدالة والتنمية للاستقالة وتأسيس حزبهم السياسي الجديد. وأكدت حالة “التمرّد” استقالة نائب رئيس وزراء تركيا السابق علي باباجان من حزب العدالة والتنمية.
ودعمت هذه الاستقالة ما كان يروج من أخبار عن أن حزبا جديدا بصدد التأسيس سيكون من بين المشاركين فيه علي باباجان وعبدالله غول. وذكرت تقارير تركية أن أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء السابق، قد يقدم على خطوة مماثلة ويؤسس حزبا مستقلا. وسيضم الحزبان نخبة من قادة العدالة والتنمية المخضرمين الغاضبين من سياسات أردوغان، ما يمكن أن يقلص من قاعدة الناخبين الضخمة التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية.
راقب هؤلاء الأفراد الساحة السياسية من بعيد لعدة سنوات، وكانوا محبطين من كيفية إدارة أردوغان لبلادهم، غير أنهم كانوا خائفين من تحديه خوفا من انتقامه منهم. لكن، يبدو أن ثقة أردوغان المفرطة بدأت تضيّق عليه الخناق وتغرق مركبه، والوقت حان للقفز منها.
وبالعودة إلى التاريخ الذي يعيد نفسه، يقول سنان سيدي “يجب أن تفسّر نتائج انتخابات بلدية إسطنبول وتدرس، فعندما سينظر التاريخ إلى هذه الفترة، سيعتبر من حاضرنا اللّحظة التي بشرت ببداية نهاية سلطة رئيس تركيا المحاصر”.
وبغض النظر عن الدور الذي ستلعبه هذه المتغيرات ومهما كانت النتائج التي ستنبثق عنها، أصبح أردوغان وحزب العدالة والتنمية ضعيفين. وتبقى قدرة الحزب الحاكم ورئيسه على استعادة ثقة الناخبين أمرا مستبعدا، خاصة وأن الأمر بات يتعلق بعقوبات دولية على تركيا ووضع قد يحوّلها إلى “دولة مارقة” وانغلاق يخشى الأتراك أن يحولهم إلى نسخة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
عقوبات دولية
اكتسب أردوغان مؤيدين عندما أجّج المشاعر القومية عبر تحدياته المتكررة للضغوط الغربية المزعومة ضد بلاده. لكن، اليوم، تثير الحالة الهشة لاقتصاد تركيا الحاجة إلى الاختيار بين القبول بخنق الاقتصاد المتهاوي أو التضحية بالمصالح السياسية.
وتشي متابعة أحدث التطورات، أن أردوغان يسير في طريق التضحية بالوضع الاقتصادي خاصة بعد دخول صفقة صواريخ أس-400 حيز التنفيذ واستلام الدفعة الأولى منها، الأمر الذي يدفع واشنطن إلى التهديد بإبعاد أنقرة عن مشروع المقاتلات أف-35 وباللجوء إلى “قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات” الذي وظفته البلاد لفرض عقوبات على الكيانات المتعاملة مع موسكو. كما يمكن أن تتخذ واشنطن إجراءات انتقامية من شأنها أن تضر الاقتصاد التركي.
على مر السنوات، اختبرت النزاعات السياسية البارزة العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة. فقد أدى الغزو التركي لقبرص سنة 1974، والغزو الأميركي للعراق في 2003، ودعم الولايات المتحدة الأخير لوحدات حماية الشعب التي يهيمن عليها الأكراد في الحرب الأهلية في سوريا، إلى توتر العلاقات بين الشريكين في حلف الناتو.
ويخلق تسليم الصواريخ الروسية صداما جديدا بين الحليفين. وقد يخلق هذا الصدام مخاطر جديدة من شأنها زعزعة اقتصاد أنقرة غير المستقر، ويمكن أن يكشف صدعا أوسع في العلاقة المعقدة بين البلدين، خاصة وأن أردوغان يظهر إصرارا كبيرا على المضي قدما في سياساته الراهنة، سواء مع الولايات المتحدة أو مع الاتحاد الأوروبي من حيث تصعيد عمليات التنقيب في شرق المتوسط.
وكانت عمليات التنقيب الأخيرة سببا في إعلان الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على تركيا وتعليق المفاوضات حول اتفاق النقل الجوي الشامل مع تركيا ووقف اجتماعات مجلس الشراكة والاجتماعات رفيعة المستوى مع تركيا في الوقت الحالي. كما وافق على اقتراح المفوضية بتخفيض المساعدات لتركيا قبل الانضمام عام 2020 ودعا بنك الاستثمار الأوروبي إلى مراجعة أنشطة الإقراض في تركيا.
بالنسبة لأنقرة، تمنحها عملية شراء صواريخ أس-400 كما التمرد على الاتحاد الأوروبي ترقية في علاقاتها مع روسيا التي تتزايد أهمية التعاون معها بالنسبة لتركيا. وتكمن أهمية هذه العلاقة على المستويين الأمني والاستراتيجي، إذ تعد موافقة موسكو أمرا حاسما لتحقيق أهداف أنقرة في سوريا. كما يساعد شراء الأسلحة الروسية تركيا على الوفاء باستراتيجيتها الطويلة المتعلقة بتنويع المصادر التي تمدها بالأسلحة والاستفادة من شركاء غير الولايات المتحدة وأيضا تساعد هذه العلاقة في فتح آفاق تكتل البريكس الصاعد أمام تركيا.
ويجمع البريكس الدول ذات النمو الاقتصادي الأسرع في العالم، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وخلال القمة التي نظمت في جوهانسبرغ من 25 إلى 27 يوليو، طلب أردوغان من قيادة البريكس السماح لتركيا بالانضمام إلى المجموعة.
وهناك اهتمام تركي متزايد بالبريكس، حيث يتم تفسير البريكس على أنه اتجاه بديل مهم في السعي لتحقيق مكانة عالمية ودور جديد لتركيا. وقد قال أردوغان، خلال قمة جوهانسبرغ “إذا انضممنا، ستسمى المجموعة بريكست بدلا من بريكس”، غير أن طلبه لم يلق ردا إيجابيا. من جهته، يؤكد جورجي تولورايا، المدير التنفيذي للجنة الوطنية لبحوث ودراسات مجموعة البريكس، استحالة ذلك في الوقت الراهن.
ويستحضر الكاتب التركي التاريخ في قراءته لتداعيات صفقة الصواريخ، قائلا إن تهديدات روسيا إبان حقبة جوزيف ستالين دفعت تركيا للاقتراب من الغرب في ذلك الحين. الآن، بطريقة أو بأخرى، يحدث العكس، مضيفا أنه بوصول مكونات منظومة أس-400 الصاروخية الروسية إلى الأراضي التركية، تصاعدت المغامرة في أنقرة بشكل كبير. وتواجه تركيا أزمة متفاقمة من شأنها أن تحطم قاعدتها السياسية الداخلية.
وينتقد الأتراك رهان الرئيس التركي على موسكو، وكيف سيضحي بالاقتصاد مقابل اختيار النظام الروسي، مذكرين أردوغان بحزمة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد تركيا بسبب إسقاط طائرة روسية في منطقة الحدود بين سوريا وتركيا سنة 2015، وكيف أثرت تلك العقوبات على الاقتصاد التركي.
كما يذكر الأتراك أردوغان بالجدل الدائر اليوم بين موسكو وواشنطن بخصوص إخراج إيران من سوريا. وكيف أن موسكو يمكن أن تعيد خلط أوراقها وتحالفاتها مع إيران لتحقيق ذلك. وأي سيناريو انقلاب قد يحدث مع إيران يمكن أن يحدث مع تركيا أيضا.
حسابات خاطئة
تشكل الفجوة التي تفصل البلاد عن الانتخابات المقبلة المقررة في 2023، جزءا من حسابات أنقرة في ما يتعلق بالمخاطرة الاقتصادية، حيث يرى أردوغان أنه يملك الوقت الكافي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي حتى لو فرضت الولايات المتحدة عقوبات تتسبب في فرار المستثمرين الأجانب وتمديد فترة الكساد مع خفض قيمة الليرة.
لكن، يؤكد الخبراء الأتراك أن رهان أردوغان على فترة الأربع سنوات المقبلة حتى تاريخ الانتخابات لن تعطيه الوقت الكافي لمداواة آثار العقوبات التي تنزل تباعا على تركيا، والتي دخلت مرحلة من الركود الاقتصادي للمرة الأولى منذ 10 سنوات، بعد أن تقلص الناتج المحلي الإجمالي التركي بنسبة 3 بالمئة خلال الربع الأخير من سنة 2018 مقارنة بالسنة التي سبقتها. كما تباطأ الاقتصاد في النصف الثاني من السنة الماضية بسبب أزمة الليرة.
خلال تلك الفترة، كسبت تركيا عائدات من الصادرات لضعف عملتها التي رخّصت سلعها. وخلال العام المقبل، يتعين على القطاع الخاص التركي سداد دين يصل إلى 140 مليار دولار، ويصعّب تباطؤ الاستهلاك المحلي هذه المهمة.
من زاوية الدفاع، تهدف تركيا إلى تحقيق اكتفائها الذاتي بحلول سنة 2023، وتصنف نفسها بأنها مستقلة بنسبة 70 بالمئة في هذا القطاع، حيث سجلت صناعة الدفاع نموا بارزا في السنوات الأخيرة مع ارتفاع الصادرات بنسبة 64 بالمئة بحلول مطلع السنة الحالية وتجاوز عائداتها الملياري دولار لأول مرة سنة 2018.
ويشير خبراء في مركز سترافور إلى أنه على الرغم من وضعية البلاد، قد تكون تركيا على استعداد للتضحية بالتقدم الذي حققته على المستوى الدفاعي، حيث تستهدف عقوبات قانون مكافحة أعداء أميركا، قطاع الدفاع أكثر من الاقتصاد.
وستؤثر العقوبات الأميركية على تركيا من عدة جوانب. من ناحية، تمثل هذه التدابير خيبة أمل سياسية لقادة البلاد الذين تعتمد روايتهم على عودة تركيا عبر نجاح قطاع الدفاع. علاوة على ذلك، ستمثل ضربة شخصية لأردوغان، الذي وعد بتحقيق نمو في هذا القطاع. كما ستمثل انتكاسة للأمن التركي، حيث إنه سيعطل سعي البلاد لتحقيق اكتفائها الذاتي من خلال إعاقة تطور الدفاع. وقد يؤدي خروج تركيا من برنامج أف-35 إلى خسارة ما بين 10 مليارات و30 مليار دولار من عائدات منتجاتها الدفاعية.
وفي حال تحقق انتقام الولايات المتحدة من تركيا، سيكون لانتقام الاتحاد الأوروبي وقعه أيضا، الأمر الذي لا يبدو أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أخذه بعين الاعتبار، وهو يقلل من تداعيات القرارات الأوروبية بحق تركيا، ويقول إنه لا توجد حاجة للتعامل بجدية شديدة مع هذه القرارات.