جيش العراق الذي تعرفنا على تاريخه منذ تشكيل فوج موسى الكاظم مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في بداية عشرينات القرن الماضي، بمهنيته واحترافه وتسليحه وبتقدمه العلمي والتدريبي وبكفاءاته وكلياته وانضباطه وتجاربه، انتهى عمليا ونفسيا مع احتلال القوات الأميركية للعراق في 9 أبريل عام 2003.
حلّ الجيش العراقي جاء بمباركة أحزاب وشخصيات السلطة الحالية لقرار الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في دلالة على سياسة الانتقام من القوات التي استبسلت في الدفاع عن الهوية الوطنية، ومنعت المشروع الإيراني بأهدافه الطائفية من احتلال أرض العراق والتمدد إلى المنطقة طيلة السنوات الثماني للحرب ابتداء من 4 سبتمبر 1980 إلى 8 أغسطس 1988.
الأحزاب الطائفية والمنظمات الميليشياوية التي قاتلت مع النظام الإيراني ضد جيش العراق وساهمت في تعذيب العراقيين في معتقلات الأسر، عندما استلمت السلطة حاولت بناء قوات مسلحة نظامية على شاكلة نظام سياسي يعتمد المحاصصة. لذلك كانت النواة في إعداد الاستمارات الخاصة بالتطوع مبنية على التوزيع الطائفي للمقاتلين في التدريب أو في الإعاشة، بمعنى اعتماد ما يؤسس لعقلية مهنية وعقيدة قتالية تبتعد عن مشتركات الجيش الوطني الواحد الذي لا يرى غير راية العراق رمزا لأهدافه وواجباته.
تعددت الرايات مع إصرار القوات الأميركية والقوات الدولية الأخرى، المكلفة بالتدريب، على ترسيخ مبدأ المحاصصة والتفريق بين أفراد القوات المشكلة حديثا، إضافة إلى إصدار تعليمات ذات صبغة مداولات مشتركة من الواضح أنها كانت بعضا من تقاليد ولاية الحرس الثوري، كارتداء العمامة وإطالة اللحى وعدم الانضباط في القيافة، إلى حد منح الرتب الرفيعة لغايات التكريم أو تجنيد المواقف لأحزاب معينة.
لكن أخطرها كان في تبني فكرة دمج ميليشيات منظمة بدر الإرهابية بالقوات النظامية وقوى الأمن الداخلي بحجة انتفاء الحاجة إلى المهمات المسلحة الخاصة، بما فتح الباب لتكوين قوات طائفية كانت سببا في التمهيد لسقوط المدن العربية بين أيدي الإرهاب والميليشيات، وفي كلتا الحالتين استطاع المشروع الإيراني السير على خطى الأهداف المرسومة له في طهران.
رئيس وزراء العراق الأسبق نوري المالكي خرج إلى الإعلام بعد إعادة انتخابه أمينا عاما لحزب الدعوة مفندا الاتهامات التي تطاله بتسليم الموصل دون قتال من الفرق العسكرية المجهزة بأحدث الأسلحة الأميركية إلى تنظيم داعش، وما سبق ذلك من تهريب قادة الإرهاب من السجون دون نسيان الممارسات الطائفية وحجم الإهانات ضد أهلنا في الموصل، بل التواطؤ لسنوات بين قواته وميليشياته وبين المتطرفين الذين كانوا يتقاسمون ابتزاز المواطنين وتهديدهم في حياتهم ومصير أسرهم.
في يونيو 2014 أجهزت دولة نوري المالكي على القوات النظامية التي أشرفت على تدريبها الولايات المتحدة، ورغم هشاشتها إلا أنها كانت إيذانا بمرحلة فتوى المرجعية المذهبية التي بموجبها تم تشكيل الحشد الشعبي الذي انضمت إليه معظم الميليشيات الإيرانية، وسرعان ما تمت تغطيته بقانون من البرلمان وبدعم من صلاحيات رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وهو من حزب الدعوة أيضا، ولأن إرهاب الميليشيات في المحافظات الأخرى كان يسبق ما سمي بـ”تحرير الموصل” من داعش، لذلك فإن التنسيق بين أهل الموصل وقيادة غرفة العمليات المشتركة اضطر القوات المهاجمة إلى حصر مهمات الحشد بواجبات التطويق وقطع الطريق على العناصر المتسللة من داعش باتجاه تلعفر والحدود السورية.
ماذا كانت النتائج بعد الحرب على تنظيم داعش وتدمير الموصل، سوى التفاف ميليشيات الحشد بنوازعها الطائفية للسيطرة على مقدرات المدينة العربية في اقتصادها وأوقافها وأنشطتها السياسية والخدمية. ومع الاشتباك في واقع فرض الإرادات بين قوى الاحتلال الأميركي والإيراني بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو المفاجئة إلى بغداد في مايو الماضي ولقائه برئيس وزراء العراق عادل عبدالمهدي الذي يبدو أنه تعهد بالكثير دون أن تكون له سلطة التنفيذ أو القناعة في منع الميليشيات من أداء واجباتها في إيصال رسائلها الإيرانية؛ بل إن عبدالمهدي سعى للظهور بدور مفاوض إيراني يناور من أجل خدمة المشروع الإيراني في العراق.
الأمر الديواني 560 لرئيس وزراء العراق بدمج ميليشيات الحشد بالقوات النظامية يؤرخ لنهاية أي تشكيل عسكري أو قوات مسلحة محترفة ضمن مفهوم الدفاع عن سيادة العراق واستقلاله، بمعنى أن العراق تمت تصفيته باستباحة إرادته طائفيا وارتهان غده لصالح ملالي طهران، لهذا فإن الجدل يدور الآن بين الأحزاب والكتل الطائفية الحاكمة حول ضرورة استقلالية الحشد تحت كل الظروف لأنه كما يصفه المالكي صمام الأمان لعدم انهيار العراق.
الانهيارات في العراق باتت معلنة في تباين وجهات النظر والسلاح بين إقليم كردستان والنظام الميليشياوي في بغداد، وهو ما يحصل أيضا بين قوى الشعب الرافضة لهيمنة الميليشيات، وبين نظام دولة الـ67 ميليشيا التي تستعد لنتائج انسحاب دائم لموظفي السفارة الأميركية في بغداد مع احتمال تعزيز تواجدهم في القنصلية الأميركية في أربيل.
قراءات يبدو أنها متغيرات تتجاوز تباكي قادة الميليشيات من أجل حصر السلاح بيد الدولة حفاظا على هيبتها. الجميع يحصد ما خلفه الاحتلال الأميركي لكن هذه المرة لم يعد هناك شيء تحت الطاولة في الصراع الأميركي الإيراني، إن وجدت طاولة يختبئ تحتها إرهاب ولاية الفقيه أو إرهاب ميليشياتها ومخططاتها في العراق.