قالت مجلة The New Yorker الأميركية في تقرير نشرته في 12 تموز الجاري، إن الفشل الاقتصادي العميق في لبنان سيبلغ ذروته هذا الصيف، بسبب إخفاق الحكومة والسياسيين في وضع تدابير عملية لتدارك الوضع المنهار، وهو الأمر الذي يزيد الضغط على الشعب.
وكان مئات الطلاب والمحاضرين المنتمين للجامعة اللبنانية في بيروت قد تجمَّعوا داخل إحدى الساحات أمام مكتب رئيس الوزراء، ظهيرة أحد أيام منتصف شهر يونيو/حزيران الحارة.
وقف بعضهم فوق شاحنة صغيرة مليئة بمكبرات الصوت، ليهتفوا ضد التخفيضات المُقترحة في الأموال المخصصة للجامعة من الميزانية الحكومية. وأخبرتني كلوديا خليل، وهي طالبة في قسم الكيمياء الحيوية، بقولها: «نريد أن نُواصل هذه السنة، ونشعر بالقلق حيال تلقِّي المحاضرات».
هذا وقد بدأ أساتذة الجامعة إضراباً منذ أسابيع، مطالبين بزيادة الأجور. وفي شهر مايو/أيار، أحرق ضبَّاط جيش متقاعدون بعضَ الإطارات، وتظاهروا في الساحة نفسِها ضدَّ التخفيضات المقترحة في معاشاتهم ومزاياهم، وراحوا يهتفون أمام الصرح العثماني الأثري، الذي يضم مكتب رئيس الوزراء قائلين: «لصوص، لصوص!».
وبحسب المجلة الأمريكية، يُحاول القادة السياسيون فرضَ تدابير تقشفية على جموع الشعب الساخطة، فيما يخفقون في اتخاذ تدابير مكافحة الفساد التي تُصِرُّ عليها فرنسا والبنك الدولي والجهات المانحة الأجنبية الرئيسية الأخرى، لإصلاح نظام سياسي يشتهر بالكسب غير المشروع وأدائه الضعيف.
واحتل لبنان المركز 138 من أصل 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد لعام 2018، والذي تُصدره منظمة «الشفافية الدولية» لمكافحة الفساد.
وبعد مرور قرابة الـ30 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية في البلاد، لا يزال شعبها يعاني من انقطاعات متكرِّرة في التيار الكهربائي، بسبب الفساد وانعدام الكفاءة اللذين تتسم بهما شركة الكهرباء التي تديرها الدولة.
نمو اقتصادي شبه معدوم.. والسبب الفساد
وأجرت البلاد أول انتخاباتٍ برلمانية منذ عام 2009، في مايو/أيار عام 2018، مما أحيا آمال الشعب في حكمٍ أكثر كفاءة.
ولكنَّ النتائج خيَّبت آمال الكثير من اللبنانيين حتى الآن، فقد استغرق الأمر تسعةَ أشهرٍ من العراك السياسي والمآزق قبل تشكيل حكومةٍ تولَّى سعد الحريري رئاسة وزرائها، في يناير/كانون الثاني. بيد أنَّه لم يكن هناك ما يُقوِّي شوكة الزعيم السني، إذ خسر ثلث مقاعد حزبه، في حين حقَّق حزب الله، وهو تنظيمٌ مُسلَّح وحزبٌ سياسي شيعي تدعمه إيران مكاسب كبيرة.
وأقرَّت لجنة المالية في البرلمان اللبناني هذا الأسبوع مشروعَ ميزانيةٍ انتقدها مُحلِّلون بحجة أنَّها مليئةٌ بالإجراءات الاقتصادية غير المكتملة، مثل بعض الزيادات الضريبية، وخفض الإنفاق. ومن المتوقع أن يصوّت البرلمان بكامل هيئته على مشروع الموازنة، الذي كان يُفترض الموافقة عليه قبل ستة أشهر.
تتوقع المجلة الأمريكية أن تثير هذه الميزانية المزيد من الاحتجاجات العامة، في ظلِّ معاناة 4.5 مليون لبناني من معدل نمو اقتصادي ضئيل يبلغ 1%، وارتفاع تكاليف المعيشة، والخدمات العامة التي تعمل بالكاد.
في الوقت ذاته، يعيش أكثر من مليون لاجئ سوري في البلاد، مما يزيد من ضغوطها الاقتصادية.
صيف ساخن ينتظر لبنان
ووفقاً لشركة «الدولية للمعلومات» التي تعمل بمجال الاستشارات البحثية في بيروت، لا يثق 85% من المواطنين اللبنانيين في ساستهم.
وقال طارق سرحان، الناشط الطلابي، إنَّ الزيادات الضريبية الجديدة ستزيد من الاضطرابات المدنية ضد النخبة الحاكمة في البلاد.
وتوقَّع سرحان بصيفٍ تسوده الاحتجاجات: «سيتأثَّر الأشخاص العاديون، ومنهم الطلاب والنادلون والعاملون في المقاهي والشركات الصغيرة» بالضرائب.
ويُعتبر لبنان اليوم ثالث أكبر بلدٍ مَديِن في العالم، إذ يُخصِّص نحو 40% من إيراداته الحكومية لسداد الديون. وفي الوقت ذاته، هناك مخاوف متزايدة من أن العملة اللبنانية، الليرة، مُعرضةٌ لخفض قيمتها.
وفي يناير/كانون الثاني، خفضت وكالة التصنيف Moody’s، التصنيف الائتماني للبنان إلى وضعٍ متدنٍّ، مخافة تخلُّف البلاد عن سداد ديونها.
وقال مسؤولون حكوميون للمجلة الأمريكية، إنَّ إقرار الميزانية كان دافعاً للتفاؤل الحَذِر، إذ قالوا إنَّها ستمنح البلاد فرصةً لتحتلَّ مكانةً أفضل في التقييم الائتماني، بحلول أغسطس/آب المُقبل.
وتجدُر الإشارة إلى أنَّ فرنسا استضافت اجتماعاً للمانحين الدوليين، العام الماضي، بهدف تعزيز الاقتصاد اللبناني في أعقاب الحرب السورية. وتعهَّد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والعديد من الدول بتقديم 11 مليار دولار في صورة قروضٍ مُيسَّرة، وهي أموالٌ تحتاجها البلاد بشدة لتجنُّب الانهيار المالي مستقبلاً.
لكنَّ المانحين لم يرسلوا الأموال لأنَّ الحكومة اللبنانية لم تستوفِ شروطهم، ومنها خفض العجز الهائل في ميزانية البلاد -الذي يُقدَّر بـ11% من إجمالي الإيرادات العامة- إلى 7.5%، وسنِّ إصلاحات اقتصادية كبرى.
وتتضمن الميزانية المقترحة لعام 2019، التي ينظر فيها البرلمان الآن، بعضَ التخفيضات في الإنفاق. ولكنَّ الميزانية تتشكل في المقام الأول من عمليات تجميد وزيادة في الضرائب لزيادة الإيرادات الحكومية، مثل زيادة الضرائب على الفوائد المكتسبة من الودائع المصرفية، من 7% إلى 10%.
الخلاصة: يقول محلِّلون إنَّ الإجراءات غير المكتملة التي اتَّخذتها الحكومة لن تؤدي إلا إلى تفاقم مشكلات البلاد الاقتصادية. وقال سامي نادر، المحلل المالي والسياسي ومدير «مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية» في بيروت: «هذا سيعمِّق المشكلة».
وأضاف نادر أنَّ النخبة الحاكمة في لبنان تراهن على ما يبدو على أنَّ القوى الأوروبية لا ترغب في انهيار اقتصاد البلاد، لأن ذلك سيؤدي إلى اتِّجاه موجةٍ جديدة من المهاجرين السوريين إليها.
وقال: «إنَّهم يعتقدون أنَّ العالم بأسره سيجثو على ركبتيه متوسلاً إلينا أن نأخذ كلَّ ما نريده، مقابل أن نحتفظ باللاجئين، لكن الأمر ليس كذلك، ولا أحد يتوسَّل إلينا».
أحزاب تتصارعُ على المؤسسات الخدماتية للدولة
وبعد الحرب الأهلية التي اندلعت بين عامي 1975 و1990، أجمعت الفصائل السياسية والدينية في لبنان على اتفاق مُعقَّد لتقاسم السلطة الحكومية على أسسٍ طائفية.
ومنذ ذلك الحين، نشأت حالةٌ من الجمود السياسي، إذ كانت أحزاب وطوائف البلاد تتقاتل من أجل الاستحواذ على المناصب والسياسة وعقود الحكومة المربحة.
وشلَّت الانقسامات السياسية في لبنان اقتصاد البلاد، إذ يساهم الكسب غير المشروع جنباً إلى جنب مع الطائفية في تأجيج الأزمة الاقتصادية الحالية.
يقول نادر، المحلل، إنَّ مؤسسات الدولة مُقسَّمة بين الساسة الأقوياء باعتبارها مصادر للدخل، وليس باعتبارها هيئات تُقدِّم خدمات مهمة للمواطنين اللبنانيين والبلاد.
وأضاف نادر: «كل عقد شراء هنا هو عبارةٌ عن وسيلة لتمويل الأحزاب السياسية. هناك الكهرباء التي تخضع لسيطرة أحد الأحزاب، فيما تخضع إدارة النفايات لسيطرة حزب آخر، وسلطة الميناء تخضع لسيطرة حزب ثالث».
ويُؤدي هذا الفساد الهائل إلى أنَّ الشركات المملوكة للحكومة، والتي يتعيَّن عليها تقديم الخدمات العامة، نادراً ما تؤدِّي مهامها بكفاءة، لكنها تؤثر سلباً على ميزانية الدولة، وتزيد من ديون الحكومة بدلاً من ذلك. وشركة «كهرباء لبنان» التي تديرها الدولة هي واحدةٌ من أسوأ المذنبين، إذ تتلقَّى سنوياً 1.5 مليار دولار على الأقل من الدعم المالي الحكومي.
وبالرغم من هذا الإنفاق الهائل، لم يصبح لبنان قادراً على توفير الكهرباء طوال اليوم منذ انتهاء الحرب الأهلية. وللتغلب على مشكلة انقطاع التيار الكهربائي يدفع السكان مبالغَ مرتفعة للحصول على الكهرباء التي تنتجها شبكة خاصة من المولدات في الأحياء.
وفوق شوارع بيروت، تمتد شبكة عشوائية متشابكة من الأسلاك السوداء الثقيلة لتربط مئات الآلاف من الشقق بالمولدات.
وأقرَّ البرلمان في أبريل/نيسان الماضي، تشريعاتٍ شاملة تهدف إلى إصلاح قطاع الكهرباء، بما في ذلك بناء محطات كهرباء جديدة، وتوفير الكهرباء على مدار اليوم بحلول عام 2020، وكان هذا الإجراء من نوعية الإصلاحات التي طالب بها المانحون الذين التقوا في باريس.
لكن المحكمة الدستورية اللبنانية أسقطت جزءاً كبيراً من القانون، في يونيو/حزيران من العام الماضي، بعد أن رفع عدد من أعضاء البرلمان دعوى قضائية تُشكِّك في نزاهة إصدار عقود بناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء، وعطَّل الحكم جهود إصلاح قطاع الكهرباء.
وقال نادر، إنَّ الساسة الفاسدين يُعطِّلون الإصلاح في الاقتصاد بأكمله، مُتسائلاً: «ما الذي سيدفعهم إلى خصخصة الكهرباء إذا كانوا يحصلون على أموالهم من الكهرباء؟ وما الذي سيدفعهم إلى فتح قطاع الاتصالات للمنافسة إذا كانت يموِّل أحزابهم، وإذا كان يُستغل لتوظيف أتباعهم؟».
حتى التخلص من القمامة لم يفلت من الرشوة السياسية
ففي عام 2015، تجاوز مكبّ القمامة في بيروت قدرته الاستيعابية، ولم تُوفِّر الحكومة، أو شركة «سوكلين» المتعاقدة مع الدولة موقعاً بديلاً، رغم التحذيرات التي استمرت لسنوات، وفي الوقت ذاته انتهى عقد «سوكلين» لجمع النفايات.
وبينما تَقَاتل الساسةُ حول هوية مَن سيحصل على العقد التالي وقيمته؛ تراكمت أكوام من القمامة المتعفنة تحت الجسور وفي مواقف السيارات. وأحرق مُواطنو الأحياء المكتظة بالسكان في بيروت نفاياتهم، فيما أُلقيت أطنان من النفايات بطريقةٍ غير قانونية في الأنهار والوديان والبحر المتوسط.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ مالكي شركة «سوكلين» هم حلفاءٌ مقربون لعائلة رئيس الوزراء الحريري. ونظَّم آلاف المحتجين تظاهراتٍ غاضبة في بيروت، تحت شعار «طلعت ريحتكم»، لإبداء غضبهم إزاء الساسة الذين يُحمّلونهم مسؤولية الأزمة. وكانت لحظة نادرة شهدت اتحاد مجتمع شديد الانقسام، مما دلَّ على أن الغضب من النخبة الحاكمة في البلاد يهزم الانقسامات الدينية.
ويدير الساسة والأحزاب السياسية اللبنانية شبكات محسوبية واسعة، تُوفِّر وظائف حكومية لأنصار كل حزب. ونتج عن ذلك تضخُّم قطاع الخدمة المدنية، إذ إن هناك حوالي 400 ألف موظف مدني في لبنان، لذا يحصل حوالي عُشر السكان على راتب حكومي.
وتستمر هيئة السكك الحديدية المملوكة للدولة في تمويل مكتب يضم عشرات الموظفين، رغم أن خطَّ السكة الحديدية خارج الخدمة منذ عقود، وتُمثِّل الرواتب الحكومية والمعاشات التقاعدية 35% من إجمالي ميزانية الدولة.
وقبل الانتخابات البرلمانية التي أُجريت عام 2018، صدَرَ تعهُّدٌ بزيادة الأجور، وهي خطوة حظيت بشعبيةٍ بين الناخبين، ولكنَّها ليست قابلة للتطبيق من الناحية المالية. والآن يحتجّ الموظفون الحكوميون أنفسهم على التخفيضات المحتملة في أجورهم، والتي يقول المانحون إنَّها ضرورية لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد.
وحذَّر الحريري من أنَّ التقشف «المؤلم» سيكون ضرورياً، في حال أراد لبنان تفادي «الكارثة». لكن من الصعب إقناع مجتمع المانحين الدوليين بأنَّ التغيير الحقيقي بدأ يحدث أخيراً. بل وسيكون من الأصعب إقناعه بإلقاء تكلفة عقود من سوء الإدارة الاقتصادية على عاتق الشعب، بعد عقود الفساد والكسب غير المشروع التي تلت الحرب.
وقال سرحان، الناشط الطلابي، إنَّ قادة لبنان هم مَن يتحملون المسؤولية، وليس شعبه. وأضاف: «إنهم السلطة الحاكمة، وهم مَن يحكمون هذا البلد منذ عشرات السنين، هم مَن وضعونا في هذه المشكلة، وليس نحن».