تُراوح الأزمة السياسية الأخيرة مكانها في انتظار نضوج الإتفاق على عقد جلسة مجلس الوزراء لتسيير الشؤون التنفيذية للدولة بمعزل عن البحث في إحالة قضية قبرشمون على المجلس العدلي. أمّا تأخير التئام المجلس فله انعكاساتٌ سلبية شكلاً وعملياً، ففي الشكل تُظهر هذه المماطلة للمجتمع الدولي استهتارَ المسؤولين، أما عملياً فتؤخّر عجلة إدارة شؤون البلاد، وبالتالي مسارَ الإصلاح والنهوض الإقتصادي في مرحلةٍ تهدّد بإفلاسٍ شامل، حيث تُفلس وتُقفل مؤسسات ومحال عدة.
كذلك، تضع الحريري في موقع العاجز، فما هي خياراتُه أمام هذا الواقع، خصوصاً أنّه "بيّ" مؤتمر "سيدر" والمراهنُ على مقرّراته التي يعتبر أنّها ستُحرّك العجلة الإقتصادية، وتدفع البلد إلى السير قُدماً بعد تراجعٍ تدريجيٍّ متواصل؟
قد يبدو الحريري لامبالياً بالنسبة إلى البعض، إذ إنّه لا يتّخذ مواقف أو خطوات جذرية صادمة، بل يعتمد خياراً أصبح معروفاً عنه وهو: "ما يعمل شي"، فيتقبّل الواقع القائم، مكتفياً بأنّ ضميرَه مرتاح، إذ إنّه لا يُعرقل، بل هو أكثر المتنازلين في سبيل تأمين الإستقرار الثلاثي: السياسي - الأمني - الإقتصادي. وفي هذا السياق، يقول رئيس الحكومة للأفرقاء المتخاصمين أو المتنازعين حول إجتماع مجلس الوزراء: "حين تتفقون أهلاً وسهلاً بكم". وتشير مصادر "المستقبل" لـ"الجمهورية" إلى أنّ "الحريري ليس وحده المسؤول عن البلد أو حتى عن الحكومة، خصوصاً أن لا دخل له بالتعطيل".
وفي حين يؤكّد الحريري ما التزمه سابقاً، أي موافقته على ما يتوصّل إليه التحقيق، إذا أثبت وجوب إحالة حادثة قبرشمون على المجلس العدلي أو على جهة قضائية أخرى، يعتبر أنّ الحلَّ الأنجح هو عقد مجلس الوزراء بمعزل عن مصير هذا الملف وعدم بحثه على طاولة المجلس.
وفي انتظار إتّفاق المعنيين على هذا الطرح، لا جلسة لمجلس الوزراء في المدى المنظور، فإلى الآن لم يوضع جدول أعمال الجلسة المُقبلة، ومن المُرجح عقدُ جلسة قريباً محصورة بإقرار قطع الحساب وإحالته إلى المجلس النيابي لئلّا تفقد جلسات إقرار الموازنة دستوريّتها، حسب ما اقترح رئيس مجلس النواب نبيه بري.
تأتي تداعيات حادثة قبرشمون وعرقلة انعقاد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة من وزراء تكتل "لبنان القوي"، ثمّ عرقلة عمل الحكومة، لتزيد حقن الطائفة السنّية ومؤيّدي الحريري، ولتُشكِّل إنتكاسةً إضافية على موقعه وشعبيته. وفي حين يعتبر البعض أنّ عليه إتخاذ خطوة صادمة لإصلاح المسار السياسي وإعادة التوازن إليه، تؤكّد مصادر "المستقبل" أنّ رئيس الحكومة "لن يُقدِم على الإستقالة، فهو لن يزيد البلد والدولة خراباً حيث تتراجع كل إحتمالات النهوض وتتدهور الحالة الإقتصادية أكثر، ولن يتأثّر باللعب على وتر الصلاحيات، فصلاحياتُه في يده ومحفوظة".
وفي مقابل الإرتياح "الحريري" المُعلن عند كلّ تصرّف أو موقف يُعتبَر مسّاً بصلاحيات رئاسة الحكومة، يظهر الاستنفار لدى قياداتٍ سنّية أخرى ورؤساء حكومات سابقين، إن من خلال الإجتماع وإصدار البيانات أو زيارة دار الفتوى أو الركون إلى غيرها من مظاهر الإستنكار.
ورداً على محاولة "إستضعاف" الحريري الأخيرة ومنعاً لإستمرار تدرُّج هذا الإستضعاف، زار رؤساء الحكومة السابقون نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام السعودية أمس والتقوا الملك سلمان بن عبد العزيز، بغية التأكيد أنّ السنّة في لبنان غير متروكين، وأنّ السعودية مستعدة لمساعدة لبنان في كلّ ما يحتاج اليه. وتُشكّل الزيارة رسالة مفادها أنّ الحريري ليس "مُعرّى"، بل إنّ السعودية يهمّها تقويته وتعزيز موقعه، لإعادة التوازن إلى الوضع السياسي الراهن في لبنان. لكنّ هذه الزيارة حسب معنيين لن تؤتى ثمارها إذا لم تكن ذات مفاعيل عمليّة، أي دعم جدي، وهذا الدعم غير واضح إلى الآن.
ويرى معارضون أن لا تغيير جدّياً في لبنان قبل التغيير في المنطقة، فجميع الأفرقاء ينتظرون أن "يفرجها الله" في مرحلة ثانية، أي يترقّبون تغيّر الوضع الإقليمي وموازين القوى في المنطقة، وتجلّي هوية المجموعة الغالبة. ففي ظلّ التوازن المفقود في لبنان، حيث هناك مجموعة تعتبر أنها منتصرة وتريد السيطرة على الدولة، وفي مقابلها هناك مجموعة منكسرة لكنها لا تقبل أن تستسلم وتسلّم، لا يُمكن بناءُ دولة أو توقُّع تغييرٍ في المدى المنظور.
وضمن هذا السياق وبمعزل عن إستهدافه أو إستضعافه وبصرف النظر عن أزمة عرقلة العمل الحكومي، فإنّ خيار الحريري حسب هؤلاء المعارضين هو: "عدمُ الإستسلام في انتظار ما سيحصل في المنطقة".