إن كل متفقه وعالم ومثقف في الشريعة الإسلامية يعرف أنَّ هناك واجبات لا تسقط أوامرها إلا بإتيانها بنية القربة إلى الله تعالى، وسواء علمنا الغرض والعلة من تشريعها أم لا، وهذه الواجبات تسمى (العباديات)أو (التعبديات)، كالصلاة والصوم...؟ وهناك واجبات أخرى تسمى (التوصليات) تسقط بمجرد وجودها وإن لم يقصد بها نية القربة، كطهارة البدن والثوب..؟
هذا التفريق يقودنا إلى أنَّ العبادات لا دخالة ولا مجال لإدراك جزئياتها وتفاصيلها، وما على المكلَّف بها إلا الإنقياد والطاعة ونية القربة إلى الله تعالى. أما المعاملات كالزواج والطلاق والبيع والقانون وما إلى ذلك فلا معنى للتعبد بها، هذا يعني أنها إمضائية من الشارع المقدَّس، وينطبق على بني البشر جميعاً، يعني ذلك أن العقل والعقلاء يدركون المصلحة والمفسدة فيها، وما نحن بصدده في "دائرة الحقوق" وخصوصاً حقوق المرأة والطفل والرجل، فإنها من الموارد التي يدرك العقل فيها المصلحة ومراعاة العدل فيها، بخلاف ما يرعبنا به فقه الفقهاء، بأنه لا يمكن إدراك المصلحة فيها، أليس هذا ما يؤكد (فحولية النص) على تهميش دور العقل وتكبيل الحقوق...
فالأحكام الشرعية تختلف عن الأحكام الحقوقية والأخلاقية، فينبغي الفصل بين الأحكام الأخلاقية، وبين الأحكام الشرعية، وهذا ما سبَّب الخلط بينهما في بعض الفتاوى المجحفة في حقوق الإنسان وخصوصاً المرأة والطفل، والتي أودت إلى البعد عن العدل الإلهي والمشاعر الإنسانية، وهذا ما حدث قديماً وما زال إلى يومنا هذا، وفي المجتمعات الإسلامية وفي المحاكم الشرعية، ما زلنا نعايشها من دون أي تقدُّمٍ أو جرأة في حلِّ هذه المعضلات، من طلاق وحضانة ونفقة، ونسمع في كل يوم عن مشاكل أودت إلى نزاعات وإعتداءات وتفريق وقتل، ولم نر أي حلِّ يساعدنا على تجاوز هذه المعضلة..
وفي نصوصنا ورواياتنا الكثير من الموارد الأخلاقية والحقوقية، ولا نرى في الفتاوى الفقهية التمييز بين هذين الأمرين، وبين الحكم الشرعي الذي هو الأصل في الفتوى الفقهية الذي يؤخذ من النص الحكم الشرعي التعبدي، فعندما نرى مجموعة روايات ونصوص في مسألة خاصة ومعينة ينبغي التفريق بينها وبين الحقوق والأخلاق.. باختصار إن الحكم الشرعي يؤخذ من الدين، والأحكام الأخلاقية والحقوقية تؤخذ من خارج الدين، ويكون الدين مؤيداً ومرشداً لهما، لأنَّ الإنسان يدرك يعقله ووجدانه المصلحة والمفسدة، وهذا ما يقوله الفقهاء أنفسهم، من أنَّ الحكم الشرعي التعبدي تأسيسي، والحكم الأخلاقي والحقوقي إرشادي... وأجمل ما قاله الفقيه المجدد "محمد جواد مغنية" في كتابه: "فقه الصادق (ع)" حول الآية الكريمة في سورة"الأعراف/ آية/199" (خُذِ العفوَ وأمر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهلين) قال: ( والذي يفهم من كلمة (العفو) للوهلة الأولى التجاوز عن الذنب، والمراد به هنا ما يعمُّ ويشمل التيسير في كل شيء،وعدم التشدُّد والتعسير في نطاق الشرع وأحكامه، والمراد (بالعرف) هو الخير وكل ما فيه نفعٌ وصلاح، وبالإعراض عن الجاهلين الحلم والأناة عند الغضب، هذا هو الإسلام في أخلاقه، حياة فاضلة تقوم على اليسر وعدم الحرج في الدعوة إلى كل خير والعمل به، والإعراض عن القال والقيل، وعن الإمام الصادق (ع) " ليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية"..