أصبح من الثابت لدى جميع القوى السياسية أنّ العنوان الطاغي منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية هو خلافة باسيل لعون في رئاسة الجمهورية، ومحاولات نَفي هذه الحقيقة لا تقدّم ولا تؤخّر، وقد شكّل تأليف الحكومة محطة لبدء العد العكسي الرئاسي باعتبار أنّ الحكومة الحالية قد تكون الأخيرة، كما أنّ جولات باسيل المناطقية والانقسام الذي أحدثته سرّعا في وتيرة فرز المشهد السياسي اللبناني.
الخطأ «القاتل» الذي ارتكبه باسيل يكمن في تعارض أجندته الرئاسية مع الأجندة السياسية لمعظم القوى السياسية، فلا يستطيع أن يفرض منفرداً إيقاعه على الحياة السياسية التي تريدها معظم القوى هادئة وتبريدية، فيما يريدها صاخبة وتسخينية، ربطاً بمشروعية حزبية ومسيحية يسعى إلى انتزاعها عن طريق المواجهات المتنقلة.
فلو كان البلد في مرحلة انقسامية على غرار حقبة ٨ و١٤ آذار لكان التصعيد الذي يحتاج إليه باسيل طبيعياً، ولكن لسوء طالعه أنّ التهدئة السياسية شكّلت حاجة رباعية: حاجة وطنية ربطاً بالتسوية الرئاسية وانتقال البلد من عدم الاستقرار إلى الاستقرار والانتظام، حاجة سياسية تحتاج اليها القوى الداخلية بعد مرحلة انقسامية عمودية أظهرت أنّ الحسم متعذر، حاجة اقتصادية نسبة الى دقة الوضع وخطورة الانهيار إذا لم يعمل جدياً على إخراج البلد من النفق الاقتصادي، حاجة «حزب الله» إلى التهدئة من أجل التفرغ للتطورات الإقليمية الكبرى وما يمكن أن تنتجه من تحولات.
وقد بَدت حركة باسيل وكأنها «عكس السير»، والتعارض في الأهداف والأجندات سيؤدي في نهاية المطاف إلى الصدام، وهذا ما حصل في أكثر من محطة بدءاً بتأليف الحكومة ومحاولات باسيل إخراجها على القياس الذي يريده، ووصولاً إلى جولاته المناطقية التي أثارت ردود فعل سلبية في أكثر من منطقة ولدى أكثر من طرف.
والخطأ الآخر الذي وقع فيه باسيل يكمن في مغالاته، إذ كان بإمكانه المزاوجة بين ضرورات الاستقرار وعدم الاستفزاز، وبين أن ينفِّذ أجندته الرئاسية بسلاسة لا بصدام يفوق قدرة البلد على احتماله. لكنّ إمعانه في خوض المواجهات ولّد توتراً كبيراً وشعوراً بالاشمئزاز لدى القوى السياسية التي تقاطعت ضمناً على مسألتين أساسيتين:
المسألة الأولى، أنه لا يمكن استمرار الوضع على هذا النحو، فعلاوة على الحاجة الى الاستقرار السياسي في مرحلة لا انتخابات فيها وتستدعي الانكباب على الملفات الداخلية، لا يسمح الوضع الاقتصادي بإدارة الوضع وكأنّ لبنان في ظروف عادية لا استثنائية وخطيرة.
المسألة الثانية، أنّ النموذج الذي قدّمه باسيل أدى إلى استنفار القوى السياسية وتقاطعها ضده، وذلك ليس بهدف وقف المسار الذي ينتهجه فحسب، بل بغية منعه من الوصول إلى رئاسة الجمهورية، لأنّ العيّنة التي قدمها دلّت على سلطوية فوق العادة، وحالة فوضوية غير مرغوب فيها تفتح مواجهات غبّ الطلب، ومن خارج السياق. وإذا كانت التسوية قد نجحت في إنهاء الانقسام الإداري بين ٨ و١٤ آذار، وجعلت المكونات الحكومية ركائز للعهد وداعمة له، إلّا أنّ باسيل «نجح» في إعادة فرز المشهد السياسي ليس باصطفاف حاد مع العهد أو ضده، إنما باصطفاف مَرن لعدم وجود رغبة في مواجهة العهد وضرب الاستقرار، ولكنّ المرونة لا تعني أنّ الاصطفاف غير موجود، بل هو قائم ويتحرك بشكل غير مباشر ضمن ثلاثة أهداف:
الهدف الأول، منع باسيل من الوصول الى رئاسة الجمهورية، خصوصاً أنّ المشكلة تتجاوز الخلاف أو الاتفاق معه سياسياً، وتتصل بأسلوبه الذي يزاوج بين الإنتاجية المعدومة والتوتر الدائم، فيما كان الرهان أنّ انتخاب عون رئيساً سيؤدي الى تغيير هذا الأسلوب في اتجاه مزيد من المسؤولية الوطنية.
الهدف الثاني، منع باسيل من استبعاد أخصامه السياسيين تحضيراً لمعركته الرئاسية، والالتفاف الوطني حول النائب السابق وليد جنبلاط يبغي قطع الطريق على محاولة باسيل تغيير التوازنات الدرزية لمصلحته.
الهدف الثالث، التمهيد لتوازن داخلي جديد يُفرمل اندفاعة باسيل ويفرض إيقاعه على المشهد السياسي، من دون أن يستفزّ عون ويدخل البلد في مواجهة لا يريدها أحد.
فهناك مرحلة جديدة بدأت، وما حصل في المطالبة بإحالة حادثة قبرشمون على المجلس العدلي قدّم عيّنة ستتكرر في كل الملفات، وهذا نتيجة الثقة الزائدة بالنفس التي وضعت باسيل في تناقض مع خماسية «المستقبل» و«أمل» و«القوات» و«الإشتراكي» و«المردة»،
وبما يعدّ سوء إدارة سياسية أدت إلى تجميع القوى الأساسية ضده، وهذا المعطى لن يتبدّل بعد تبديد باسيل كل الفرص التي أعطيت له، وسيناريو المجلس العدلي سيتحوّل قاعدة في المرحلة المقبلة.
أخطأ باسيل او لم يحسب جيداً خطواته التي لم تبقِ له حليفاً، وجعلت القوى السياسية تتحسّب لضرورة قطع حظوظه الرئاسية، ولكن السؤال الأساس: هل يسلّم باسيل بهذه النتيجة؟ وما الخطوات المتوقعة منه؟
وفي مطلق الحالات النصف الثاني من العهد سيختلف عن النصف الأول، وقد بدأت معالمه وتحالفاته تتبلور تدريجاً، ففترة السماح انتهت، ولكن مقابل الاصطفاف السياسي الجديد يجب أن نتوقّع مزيداً من «استشراس» باسيل الرئاسي، لأنه لن يسلِّم بمعادلة إخراجه من السباق الرئاسي، ما يعني أنّ المرحلة المقبلة ستكون مفتوحة على مزيد من التأزُّم والمواجهات والتوتير.