تروّج السلطة الحاكمة في العراق لسياسة النأي بالنفس بشأن الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، رغم أن كل الوقائع تؤكد أن العراق لا يمكن له الإيفاء بوعود الحياد بين الطرفين لأنه ببساطة لا يمتلك استقلال قراره عن غايات وأهداف المشروع الإيراني الذي ارتهن الاقتصاد والأمن وتوجهات السياسة بأدلة قاطعة لم تعد في إطار التحليلات أو التخمينات أو لدوافع التسقيط السياسي أو خطاب المحاصصة الطائفية.
سياسة النأي بالنفس انتقلت لتتحول إلى برامج لتدوير بقايا أرصدة الأحزاب والشخصيات المجربة طيلة السنوات الماضية التي أعقبت الاحتلال الأميركي. سياسة تقترب من أصداء البراءة من ذلك التاريخ الذي أسرف على العراقيين بالجرائم والإبادات وتدمير المدن وصناعة الكراهية، لذا فإن أي تحوير يحصل في بعض أجزاء العملية السياسية لقوى الاحتلال لا يخرج عن نطاق التخطيط والإعداد لمزيد من مناهج التمويه والالتفاف على مصالح وذاكرة شعب العراق.
النظام الإيراني يحتل العراق بالمطلق. صدمة التعميم الجازمة هذه لاحتلال إيران للعراق تفسر ظواهر الصعود على ظهر موجات الاحتجاجات والتظاهرات والسأم الشعبي من تراجع الخدمات وزيادة نسبة الفقر والبطالة والتهميش وانتشار الفساد، لأهداف الإثراء أو لنهب ثروات العراق لتخفيض آثار العقوبات الأميركية على نظام الملالي.
الخطأ الذي وقعت فيه ولاية الفقيه أنها اعتقدت أن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، بمصادقتها على الاتفاق وفي تلك المناخات من ترضية الجانب الإيراني للدفع به إلى التوقيع، قد اعترفت بالولاية كحقيقة تنتمي إلى إرادة الدول الكبرى، وأن تفويضا منح لها لتلعب دور القوة المهيمنة على المنطقة وبالذات في فترة الانكفاء الأميركي بانسحاب إدارة باراك أوباما من اهتماماتها في الشرق الأوسط.
إيران اعتبرت الاتفاق إشارة خضراء فتحت الطريق أمامها لتصدير فتنتها المذهبية إلى خارج الحدود اعتمادا على ترسيخ الخطأ الاستراتيجي لنتائج الاتفاق في سلوكيات حرسها الثوري وامتداداته الميليشيوية التابعة لفيلق القدس. ومن ملامح الأخطاء المتتالية أن سلاح الميليشيات في أكثر من دولة ومنها العراق صار يمثل إرادة المرشد علي خامنئي وأن أي خروج عن محددات هذا الفهم لأي من الأحزاب أو التيارات أو الأشخاص حتى لو من باب النصح أو الاستدراك لعدم السقوط في المطبات المحتملة، بات يقابل بردات فعل تتسم بالعنف. وهذا ما يحصل منذ فترة حيث تتصاعد لهجة التذمر من التهديدات التي تطال رموز العمل السياسي في العراق، رغم أن بعضهم لا يحتاج إلى تزكية في ولائه للمرشد الإيراني.
الميليشيات بقرارها السياسي والعقائدي الذي ينتمي إليه النظام الحاكم في العراق، تصادر البرنامج الحكومي والدبلوماسية الخارجية لصالح المناورة لأهداف النظام الإيراني، ولذلك تبدو قيادات الحشد الشعبي بمزاج المتفهم لما صدر عن رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي من قرار دمج الحشد بهيكلية وآلية القوات النظامية.
عدم خوف بعض زعماء الأحزاب أو التيارات السياسية والدينية من التهديدات يعود لامتلاكهم الميليشيات والسلاح، وليس لأنهم يمثلون إرادة الشعب. لكن جرد الحقائق يفرض القول إنه لا إرادة في العراق فوق إرادة النظام الإيراني، وإنه لا سلاح فوق سلاح الحرس الثوري وإرادة قاسم سليماني وأوامر الولي الفقيه. وبما أن النظام الإيراني وقع في الخطأ الاستراتيجي وتمادى في إرهاب تنظيم دولته إلى أن تم استدراجه إلى المصيدة، لذلك من يستشعر نهايته من أتباعه يسعى لصياغة خط رجعة له. لكن هذا الخط تلاشى واقعيا منذ سنوات بفعل انعدام الثقة، ومؤكد أن شعب العراق لم تعد لديه أيّ وصلة حبل من الممكن أن تمتد لإنقاذ من غدروا به للمرة الألف.