إن أكبر جريمة في تاريخنا الإسلامي، وتاريخنا الحاضر،هو أن نحوِّل هذا الدين العظيم إلى واجهة للوصول إلى الحكم والسيطرة على الناس، تحت إمرة الحاكم السياسي الذي يباركه الفقيه الديني.
منذ أن بدأت " الخلافة" في التاريخ كموجة ـ دينية وسياسية ـ بدأ معها الصراع المرير، من حروب أهلية قاسية وضاربة وضروس، والبعض اعتبرها تصفيات جسدية من أجل إضفاء الطابع الديني المقدس عليها، ألم نقرأ في التاريخ مقولة أطلقها قائد عسكري وسياسي أموي وهو ما يعرف "بالحجاج السيَّاف"،(إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها،وإني لصاحبها، وإني لأرى الدم يترقرق بين العمائم واللحى)، إنها مقولة عربية إسلامية مشهورة، وما زالت تردد على الألسن في كل واقع وزمن يمر على الأمة، وحكموا دولتهم بالحديد والنار باسم الله، وقامت الدولة على جماجم الناس وعظامهم، وهكذا تحولت الدولة الإسلامية أو الدينية إلى دويلات وأحزاب وجماعات ومجموعات تحت إقامة الشرع والدين باسم الله، أو ما شئت من أسماء تنطق باسم شرع الله، على سبيل المثال لا الحصر، الإمارة الإسلامية، الخلافة الدينية، ألوية إسلامية جهادية، لتتحكَّم في الناس، وفي مصير حياتهم، ووأد العقول والسيطرة على حرياتهم، تحت حجة طلب الخير لهم، في الوقت الذي لا يريد الكثير من الناس هذا الخير الذي يطلبونه لهم، وكم يحدثنا التاريخ عن طلاَّب الخير والدين أرادوا للناس الخير لهم، وسالت الدماء كالأنهار من أجل هذا الخير الذي لا يريدونه..؟؟؟!!!!..
وما زلنا إلى اليوم نعيش الخطابات الدينية والسياسية المستغلَّة تحت هذا العنوان الفضفاض الكبير الذي لا يمكن ضبطه والحد منه، وببركة الشيوخ المتطرفة والتي تضفي الشرعية على هذه الأمور تحت مسميات دينية: مرجع، مفتي، فقيه، آية الله، بحَّاث، علاَّم، أمير المؤمنين، الخليفة، القائد، الولي، وما إلى ذلك من أوصافٍ وألقابٍ كثيرة وعديدة.. إن أكبر جريمة في تاريخنا الإسلامي، وتاريخنا الحاضر،هو أن نحوِّل هذا الدين العظيم إلى واجهة للوصول إلى الحكم والسيطرة على الناس، تحت إمرة الحاكم السياسي الذي يباركه الفقيه الديني، وهذا الثنائي الخطير ـ أي السياسي والديني ـ أن يحوِّلان القرآن الكريم ويحمِّلان أكثر مما جاء به الأنبياء (ع) ومما جاء به نبينا محمد (ص) للوصول إلى القصور الرئاسية، وممارسة كل ما هو محذور من أجل البقاء والسيطرة على كرسي السلطة..
وإنني مرتاح الضمير أمام هذه السطور، وأبرأ من كل هذه التسميات والأسماء والمسميات تحت إقامة دين الله تعالى وشرعه، والتي ترفض كل مواثيق التي جاءت بها قوانين حقوق الإنسان، التي تحفظه في كرامته وشرفه وعرضه، مهما كان لونه وعرقه ولغته واتجاهه وجنسه وهويته، إنها مواثيق وقوانين أثمرت أزهى ثمار من أجل القضاء على الطغيان والهيمنة والإستبداد بكل أشكاله وأنواعه كافة، وتتبنى مفاهيم خارجة عن زمان البشر وحفظ الإنسانية، وترفض كل هذا النتاج من الأطر السياسية ومن تداول السلطة ومن محاسبة الزعماء والقادة مهما تكبروا أو تجبروا، ومن نظامٍ الديمقراطية التي تحفظ حقوق المجتمعات، وتلك التجارب البشرية والإنسانية الثرية والغنية، التي بنت أعظم الحضارات، لتتبنَّى العودة إلى هدمها، وتفضِّل العيش في صحراء قريش، وتشرب الماء من جِبٍّ رموا فيه أنبياء الله، ومن ثم يتغزلون بوجه القمر، وضوء الشمس، وينظمون الشعر والنثر، ويشربون لبن النِّياق، ومعهم الخضراء والتغزُّل بالوجه الحسن، ويفضلون العودة إلى النماذج والعصور التاريخية والقديمة والمنقرضة للعيش فيها، وتتبنَّى السيف والترس والقوس والخيل والأنبال.. فلنقف وقفة ضميرٍ ونعلنها، ـ الأديان لله، والأوطان للجميع ـ ولنخرج من التصورات الذهنية والوهمية، لنلتحق بتلك القوانين التي جعلت الإنسان يعيش تحت قانونٍ يحفظ حياته كإنسان، وليس من هوام الأرض، أم سنظل ندعو منذ أكثر من (14) قرن، ونحن نريد أن نبني الدولة الدينية، ولم تتحقق منذ تلك الحقبة وإلى يومنا هذا، وسنظل نحارب طواحين الهواء، كما وصفها الكاتب الإسباني (ميجيل دي سرفانتس) في قصته الشهيرة (دون كيخوته) حيث يعيش البطل العجوز في الماضي، مسبوقاً في قراءة الكتب القديمة، حتى تستبد به الرغبة في أن يكون فارساً بعد أن انقضى زمن الفرسان فيرتدي الدرع، ويمتشق السيف، ثم يتخيَّل طواحين الهواء جيوش الأعداء فيهجم عليها ليهزمها.