ليس هناك مسؤول في الدولة اللبنانية إلاّ وتبلّغ التحذيرات الأميركية من مغبّة استمرار الدمج بين نهج «حزب الله» والنهج الرسمي، خصوصاً بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
في الربيع الفائت، كان اللبنانيون «مرعوبين» من قرارات أميركية تشكل ضربة قاضية لمالية الدولة والقطاع المصرفي. وتكثفت زيارات الاستطلاع النيابية والوزارية والمصرفية لواشنطن، بهدف جسّ النبض: إلى أين ستصل العقوبات؟ هل ستقتصر على «حزب الله» وبيئته، أم ستشمل آخرين وتهدِّد الاستقرار؟
ترافق ذلك مع هواجس تنتاب الجانب اللبناني من دعاوى رفعها في نيويورك، ذوو جنود أميركيين، ضد مصارف لبنانية بتهمة تمريرها أموالاً لـ«الحزب» الذي - وفق هؤلاء - يتحمل مسؤولية عن استهداف أبنائهم في العراق.
تبلّغت الوفود أنّ واشنطن حريصة على استقرار لبنان السياسي والمالي والأمني، وأنها لن تسحب يدها من دعم الجيش ومصرف لبنان والقطاع المصرفي.
لكنها أيضاً لن تسمح بأن تقوم الدولة وهذا القطاع بـ»خرق» القطاع المصرفي الأميركي و«تَسميمه» بأموال تنظيم إرهابي. وأبلغ الأميركيون الى ضيوفهم أنّ على الحكومة اللبنانية أن تجد الطريقة المناسبة لوقف هذا الخرق، وإلّا فإنهم سيتعاطون مع لبنان كله وكأنه «حزب الله».
وهنا يجدر التوقّف عند اجتماعين عُقدا في واشنطن، في نيسان، بين مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية مارشال بيلنغسلي ونائب رئيس الحكومة غسان حاصباني ووزير الاقتصاد منصور بطيش. وتفاصيل الاجتماعين سُرِّبت في محضرين دوَّنهما سفير لبنان غبريال عيسى وأرسلهما إلى الخارجية في بيروت.
قال بيلنغسلي في اللقاء مع بطيش: «نأمل في أن يتفهّم الوزير باسيل أننا نتابع تصريحاته المتعلقة بـ«حزب الله» عن قرب، ونتمنى أن يبتعد عن السيّد حسن نصرالله وجماعته».
وأمّا في اللقاء مع حاصباني فقال بيلنغسلي: «ذهبنا في الاتجاه الصحيح» في التعاطي مع «حزب الله» الذي «يدخل إلى النظام المالي اللبناني ويستعمل الأموال من خلال حسابات مصرفية».
وأسف بيلنغسلي لدور الرئيس ميشال عون وباسيل في «تضخيم دور «الحزب». وقال: «نعمل على العلاج الكيماوي الدقيق والهادف. أما بالنسبة إلى العملية الجراحية فالعقوبات حتماً قادمة». ولفت إلى أنّ «حزب الله» أخطأ مع الأميركيين بقتل الكثير منهم». وأبدى ارتياحه إلى الجيش وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونائبه محمد بعاصيري.
وفي ما يشكّل تمهيداً لوساطة ديفيد ساترفيلد الحدودية مع إسرائيل، دعا بيلنغسلي لبنان إلى «التواصل مع القبارصة وحَجز موقع له في خط أنابيب غاز شرق المتوسط الذي يشارك فيه الإسرائيليون، وإلّا فسيُترَك لبنان وحيداً خارج الخط».
طبعاً، هذا هو المضمون الذي ظهر في المحضرين. وقد تكون هناك عناصر أخرى تفصيلية في اللقاءين لم تُذكَر. وفي أي حال، يمكن استنتاج 3 خلاصات تبلّغها لبنان:
1- لا تهاون مع «الحزب» و«العملية الجراحية» آتية.
2- إستياء من دور عون وباسيل، وارتياح الى الجيش ومصرف لبنان.
3- مطلوب دخول لبنان في مفاوضات مع قبرص حول أنبوب الغاز الذي تشارك فيه إسرائيل تحت طائلة العزل والحرمان من استثمار الغاز.
هذه الخلاصات - على خطورتها - تمّ تلقّفها في بيروت «على الطريقة اللبنانية»، أي بمحاولة صَمّ الآذان، لعل الأميركيين يغلّبون «الاستقرار اللبناني» (التقليدي) على أي اعتبار آخر، ويتعايشون مع حالة «حزب الله» كأمر واقع. ولعل الوقت يحلّ المشكلة. لكن ذلك لم يحصل.
ويبدو أنّ إدارة ترامب ماضية في تصعيد عقوباتها وتوسيعها. ولاحقاً، لا شيء يمنع من شمولها حلفاء «الحزب» في «التيار الوطني الحر» والغالبية الموالية له في المجلس والحكومة. وعندئذٍ، سيكون لبنان في وضع صعب جداً.
على رغم من هذه المخاطر، لم يبادر المعنيون في السلطة إلى خطوة إنقاذيّة، لأنهم واقعون تحت وطأة الصفقة التي تمّت عام 2016. وهم عاجزون عن فكّ الارتباط بين النهج الرسمي ونهج «الحزب».
تلك الصفقة قامت على التسليم لـ«حزب الله» بالقرار في الملفات الاستراتيجية، فيما الآخرون يتوزَّعون المناصب والمكاسب في الداخل. لذلك، لا يستطيع أركان الصفقة الآخرون أن يطالبوا «الحزب» بشيء، وإلّا فإن هذه الصفقة ستُنسَف من أساسها وتتعطّل المؤسسات التي نشأت نتيجة لها، أي ستتعطّل السلطتان التنفيذية والتشريعية بكاملهما، ويفقدون هم مواقعهم.
إذاً، المغامرة اللبنانية مستمرة، بل المقامرة. وفي الفصول المقبلة من العقوبات سيكون الضغط الأميركي مضاعفاً ومضاعفاً: الضغط على أركان السلطة لفكّ الارتباط مع «حزب الله»، والضغط عليهم ليسهّلوا المفاوضات مع إسرائيل، والضغط على النظام المالي والمصرفي ليكون أكثر شفافية، والتعبير الواضح عن الاستياء من فساد الطاقم السياسي وعن رغبة في تغييره أو تغيير سلوكه.
وفي اعتقاد المواكبين أنّ ترامب «لا يمزح» في مسألة العقوبات على لبنان، فيما البعض في لبنان يتصرّف كالراعي في القصة الشهيرة. وفي النهاية ربما يفاجأ: الذئب قد يأتي فعلاً!