كان الانسحاب من الاتفاق النووي الموقع مع النظام الإيراني على عهد إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعضا من البرنامج الانتخابي لفريق المرشح دونالد ترامب، أي أن ورقة الطعن في الاتفاق كانت جزءا من حملة الحزب الجمهوري للإطاحة بأحلام الحزب الديمقراطي ومرشحته هيلاري كلينتون التي حظيت بدعم الرئيس باراك أوباما حتى اللحظة الأخيرة قبل إعلان نتائج الانتخابات.
هذه الورقة ذات الأثر الداخلي في الولايات المتحدة لم تكن تستهدف نظام طهران في تصميمها الأساس، بقدر ما توجهت إلى محاولة طمس وإلغاء ومحو سجل القرارات والاتفاقيات المبرمة أثناء دورتين انتخابيتين فاز فيهما الرئيس أوباما بإدارة البيت الأبيض، لكن بعد أن تولى الرئيس ترامب منصبه تبين أنه بصدد تنفيذ التزاماته بوعوده الانتخابية ومنها ما تطور إلى الانسحاب من الاتفاق “الأسوأ”، على حد تعبيره، في تاريخ الإدارات الأميركية.
وبما أن الدورة الانتخابية محددة بأربع سنوات ويمكن للرئيس الترشح فقط لدورة ثانية، عادة ما تكون الأرجحية فيها للرئيس في حالة عدم وجود ما يعكر صفو الانتخابات من تقاطعات جوهرية مع الناخبين أو مع صانعي توجهاتهم، لذلك تبقى مؤشرات الفوز خارج قراءة النتائج الأولية بانتظار الحسم في مراكز معينة أو في تحولات الأمتار الأخيرة، وهو ما حصل للرئيس ترامب الذي تعلم الدرس في كيفية كسب ثقة ناخبيه منذ الخطوة الانتخابية الأولى.
"ما تجرأت عليه قوى الاحتجاج في إيران اضطرّ ولاية الفقيه إلى إجراء تغييرات كشفت عن حالة النظام وما يعانيه من مخاوف جوهرية انتابت قمة هرم السلطة"
ورقة الاتفاق النووية تطرح نفسها مبكرا في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذه المرة ليس من طرف الرئيس ترامب فقط إنما من كل الأطراف ونعني بها مرشحي الحزب الديمقراطي وما أفرزه الانسحاب الفعلي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 على الوضع الدولي، وما أعقبه من إعادة العمل بالعقوبات الأميركية وتصعيدها، وما تواتر منها بزج الحرس الثوري على قائمة المنظمات الإرهابية وغير ذلك مما يمكن أن يكون مخرجا للرئيس ترامب في استهلاك التوقيتات، وصولا إلى موعد الانتخابات دون أن يخوض مواجهة ساخنة مع النظام الإيراني الذي يسعى إلى تقويض حظوظ ترامب في فترة رئاسية ثانية من منطلق أن الحرب وتوقعات أي خسائر بشرية بين صفوف القوات الأميركية تعنيان أن الرئيس أخفق في تنفيذ وعوده لناخبيه بعدم إقحام الجيش الأميركي في حروب خارجية تثقل كاهل الاقتصاد وتفرّط في دماء الأميركيين.
في مفترق طرق اللحظة الآنية تضغط إيران على ما تعتقد أنه عصب الصبر الإستراتيجي للرئيس ترامب وإدارته، إدراكا من المرشد علي خامنئي وحرسه الثوري أن الوقت يتسرب من بين أيديهم ليتحول إلى رهان للطرف الآخر عندما تنقلب المعادلة.
المرحلة الحالية هي أنسب فترة كما يعتقد النظام الإيراني، لتوصيل رسائله إلى أوروبا وتحديدا الدول الموقعة على الاتفاق بإعطاء مُهَل زمنية لا تتعدى الشهرين أو المراوغة حتى بالأسابيع، وذلك بإلغاء العمل ببعض بنود الاتفاق ومنها زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم لدفع تلك الدول إلى خرق العقوبات الأميركية وتخفيض آثارها الخانقة.
النظام الإيراني أصبح على دراية بكيفية تحليل توقعات تمدده نحو الهاوية في الداخل الإيراني، لذلك يلجأ إلى اتخاذ مجموعة إجراءات ضمن ما يحاول أن يبتز به الجانب الأوروبي تطبيقا لما يسميه نفاد الصبر الإستراتيجي للنظام، والمعنى هنا لا ينطبق على الإرادة السياسية بقدر ما ينطبق على ما أسفرت عنه وقائع العقوبات، وهي ما يراهن عليه بالمقابل الرئيس ترامب ومستشاروه لدفع النظام إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء التي ستثير قلق الاتحاد الأوروبي وبالذات من برامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وهو قلق تشترك فيه بريطانيا وألمانيا وفرنسا مع خط سير الإدارة الأميركية في إدانة السلوك الإيراني والمتفق عليه في قرار مجلس الأمن 2231.
نظام ولاية الفقيه يبرر إنتاج الصواريخ الباليستية لأهداف دفاعية رغم أن البرنامج يتكفل بحمل الرؤوس النووية، وهذا البرنامج المكثف الإنتاج بخطوطه متعددة المسافات يعتبر بمثابة استعداد مزدوج لما يسبق إنتاج السلاح النووي، إضافة إلى إمكاناته الهجومية التقليدية في اختصار للمهمة النووية بما تؤديه من تطويع الإرادات الدولية لغايات الخروج من نفق العقوبات بالمناورة، بدليل ما ورد عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف من إمكانية العودة عن قرار رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أقل من 5 بالمئة في حال الاستجابة الأوروبية للمطالب الإيرانية.
"في مفترق طرق اللحظة الآنية تضغط إيران على ما تعتقد أنه عصب الصبر الإستراتيجي للرئيس ترامب وإدارته، إدراكا من المرشد علي خامنئي وحرسه الثوري أن الوقت يتسرب من بين أيديهم"
هل أخطأ ترامب في توقيت الانسحاب من الاتفاق النووي قياسا إلى المدة المتبقية، الطويلة نسبيا، لغاية موعد الانتخابات المقبلة، أم أن العقوبات وما ستسفر عنه من تهور الملالي ستحشد له كل ظروف الفوز بالانتخابات إضافة إلى تعرية النظام الإيراني؟
ما تجرأت عليه قوى الاحتجاج في إيران اضطرّ ولاية الفقيه إلى إجراء تغييرات كشفت عن حالة النظام وما يعانيه من مخاوف جوهرية انتابت قمة هرم السلطة، ابتداء من تعيين إبراهيم رئيسي على رأس السلطة القضائية وهو المعروف بدمويته وإشرافه على إعدام الآلاف في السجون، مع توصية من المرشد أثناء التكليف بـ”الحزم” في تأدية مهماته.
وكذلك إعفاء قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري وتحويله إلى وظيفة إدارة ناد اجتماعي والذي اعتبرته الأوساط الإيرانية إهانة قصوى لعدم قدرة الحرس على قمع انتفاضة ديسمبر 2017 في مهدها تجنبا لما نتج عنها من امتداد لشرارتها إلى المدن الإيرانية، وكانت سببا في حث المجتمع الدولي على إعلان تضامنه مع حق الشعوب الإيرانية في التحرر من النظام المتخلف.
نظام ولاية الفقيه يقامر بإحراق أوراقه المتبقية باتباع أسلوب التهديدات وخرق بنود الاتفاق النووي، مع احتمال أن يلجأ إلى عملية قيصرية ضمن حسابات تنطبق على ممارساته القديمة تحت بند “التقية” الذي يبرر الضرب تحت الحزام بمصادر تختلط فيها الأوراق وتضيع معها توقيتات الحرب العالمية على إرهاب تنظيم الدولة الإيرانية.