تمكن الاتحاد الأوروبي بعد مشاورات طويلة وخلافات بين البلدان وتعقيدات بين المجموعات السياسية من الوصول إلى تسوية حول توزيع مناصب هيئاته التنفيذية وحول انتخابات رئاسة البرلمان الأوروبي. وكشفت هذه التسوية عن دقة في التوازنات الجهوية والنظرة إلى دور ومستقبل العمل الأوروبي المشترك مما يزيد من تفاقم مسارات أزمة وجودية بدأت مع “البريكست” واحتدمت مع صعود التيار الشعبوي والانعزالي.
لا تبدو الصورة وردية بالرغم من تسوية صعبة المنال كان للمحور الفرنسي-الألماني دور كبير في بلورتها، ويبقى الأهم إيجاد توافق حول انطلاقة جديدة للمشروع الأوروبي، أو إيجاد تعريف جديد للدور والطموحات والتموضع في سياقات إعادة تشكيل النظام الدولي، إذ أن الاتحاد الأوروبي ليس اليوم إلا القطب الخاسر إزاء ثلاثي صاعد أميركي-صيني-روسي.
لم تسمح انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة (مايو 2019) بفرز أكثرية حاسمة لصالح تحالف “مجموعة الحزب الديمقراطي الشعبي” (المحافظون اليمينيون) و”مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين” (وسط اليسار). وأتى ميزان القوى الجديد مع تقدم محدود للمد الشعبوي القومي الوطني بسبب صعود لجماعة الخضر والمدافعين عن البيئة وكذلك لمجموعة الليبراليين (النهضة) المؤيدتين لمشروع البناء الأوروبي.
وأسفر خلط الأوراق وصعوبة تركيب التحالفات عن ثلاث قمم غير مجدية بين القادة الأوروبيين بينت بوضوح التناقضات بين دول غرب أوروبا المؤسسة للاتحاد ومجموعة “فيشغراد” (بولندا وهنغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا) من شرق أوروبا، وبرز كذلك اختبار قوة بين المجموعات السياسية الرئيسية وداخل المجموعات نفسها، وزاد التعقيد مع حسابات الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية حول تركيبة تلائم طموحاتهما أو رؤية بلديهما لمستقبل العمل الأوروبي.
ولذلك لا يمثل التوافق على قيادة المؤسسات من فوق وبطاقم نسائي حديدي إلا البداية لمسار الألف ميل نتيجة جسامة التحديات كي يعبر الاتحاد الأوروبي منعطف التجديد ويحافظ على وحدة تركيبته الفضفاضة والهشة خاصة عند الذين لم يروا في الاتحاد إلا سوقا مشتركة وقطبا اقتصاديا دون البعد السياسي والاستقلال الاستراتيجي.
كانت الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي سجلت نسبة عالية من المشاركة، فرصة لرصد المشهد الأوروبي ومتغيراته. وبالرغم من تراجعه الانتخابي أصر الحزب المحافظ (الديمقراطي الشعبي) على الاحتفاظ بامتيازاته واختيار رئيس مجموعته البرلمانية الألماني مانفريد فيبر لمنصب رئاسة المفوضية الأوروبية التي هي عمليا الأداة التنفيذية وحكومة الاتحاد الأوروبي.
لكن التوازنات لم تجعل هذا الخيار ممكنا خاصة أن الرئيس إيمانويل ماكرون لم يتجاوب لطلب المستشارة أنجيلا ميركل لتحفظه على شخصية المرشح ولرؤيته وقد جارته في ذلك مجموعة الليبراليين الأوروبيين حيث تشكل حركته السياسية “الجمهورية إلى الأمام” عمودها الفقري. وتبعا لهذه الصعوبة توالت التباينات إزاء الأسماء الأساسية الأخرى (رئاسة المجلس الأوروبي، المصرف المركزي، وزارة الخارجية ورئاسة البرلمان).
وبعد فشل محاولة أخرى تمثلت في الدفع بالاشتراكي الديمقراطي الهولندي فرانز تيمرمانز لتولي منصب رئاسة المفوضية الأوروبية، استقر الأمر على اقتراح للرئيس الفرنسي لترشيح وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين، المقربة من المستشارة ميركل لتكون أول رئيسة ألمانية للمفوضية الأوروبية منذ 1967، على أن تتولى الفرنسية كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي والوزيرة الفرنسية السابقة، رئاسة البنك المركزي الأوروبي.
وإذا كان لافتا اختيار امرأتين على رأس اثنين من أبرز مناصب الاتحاد، لا يرتبط الاختيار حكما بذلك، بالرغم من وجود نص يلزم التكافؤ بين الجنسين في توزيع المناصب التنفيذية، بل بإعادة إحياء المحور الفرنسي-الألماني في قيادة الاتحاد الأوروبي. وامتد التوافق ليشمل البلجيكي شارل ميشال كي يخلف البولندي دونالد توسك في رئاسة المجلس الأوروبي، على أن يتولى الوزير الإسباني الاشتراكي جوزيب بوريل منصب وزير خارجية الاتحاد.
انعكست البلبلة داخل مجموعة الاشتراكيين الديمقراطيين على الخطوات اللاحقة وأبرزها انتخاب رئيس البرلمان، إذ استنكفت الكتلة عن قبول تمني القادة باختيار رئيس من دول شرق أوروبا وذهبوا إلى حد تسمية البلغاري سيرغي ستانيشيف، لكن ندوب فشل ترشيح تيمرمانز، الذي تعرض لفيتو أوروبي شرقي والترشيح المفاجئ للهنغارية كلارا دوبريف لعبا لصالح الجانب الإيطالي ووصول الاشتراكي دافيد ساسولي إلى هذا المنصب. في النهاية يمكننا أن نلاحظ أن المناصب التنفيذية للاتحاد هي في أيدي الأعضاء المؤسسين للمجموعة الأوروبية بالإضافة إلى إسبانيا التي انضمت عام 1986. وكلها دول في غرب أوروبا، بينما لم يتمثل شرق أوروبا كفاية ما يطرح تساؤلات عن ديمومة الاتحاد بصيغته الحالية بعد التوسعة الكبرى إثر انهيار جدار برلين.
بغض النظر عن التسوية التي حصلت حول قيادة العمل الأوروبي ونالت فيها حصة الأسد ألمانيا وفرنسا، فإن ذلك لا يعني انطلاقة مسار لتجديد المؤسسات وإعطاء اندفاعة للمشروع الأوروبي الذي لم يتحقق على أساس القوة بمعناها الكلاسيكي، لأن الاعتماد كان على غطاء حلف شمال الأطلسي وعلى مشروع مارشال الأميركي عند التأسيس، والآن يتغير الوضع ويفرض بعد الخروج البريطاني اعتماد خيارات واضحة لاستمرارية المشروع الأوروبي.
وإزاء تحدي إدارة الرئيس دونالد ترامب لغلاة الاتحاد وحيال هاجس التمدد الروسي والتوسع الصيني، تجد النواة الصلبة للاتحاد الأوروبي نفسها أمام اختبار مصيري، وعلى الأخص فرنسا وألمانيا اللتان لم تنجحا حتى الآن في تكوين قوة عسكرية مشتركة لإنهاء الانكشاف الاستراتيجي. ولذا من دون تصور يضمن أن يعمل الاتحاد الأوروبي وفق صيغ متعددة حيث يتكون تحالف عسكري إرادي بين الراغبين، أو المزيد من الاتحاد السياسي، فإن ثقل العامل القومي وخصوصية الدول وتاريخها العريق يمنع إقامة ولايات متحدة أوروبية ومنح زخم أكبر للفكرة الأوروبية.
هكذا سيعاني منعطف التجديد من كل هذه الاعتبارات ومن مصالح الدول الذاتية ومن محاولات التفكيك من قبل الوطنيين الشعبويين ومحاولات الاختراق من المتربصين الخارجيين. وكل هذا يفرض مراجعة في العمق لهذه المرحلة من تطور المؤسسات الأوروبية وصياغة إستراتيجية تتأقلم مع المتغيرات وتجعل مستقبل الاتحاد أقل غموضا.