في الترجمة السياسية، فإنّ الرئيس ميشال عون حيّد نفسه عن المفاوضات، على الرغم من أنه هو المولج التوقيع على المعاهدات الدولية، والحري به أن يرعى عملية التفاوض. كذلك فعل رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، الذي يُفترض به أن يكون السلطة التنفيذية في أيّ تفاوض أو تسوية.
ليس سرّاً أنّ المسيحي اللبناني كان مُتَّهماً في بعض المراحل بأنه الأقل عداءً لإسرائيل، بل هو تعاون معها خلال الحرب الأهلية (علماً أنّ آخرين تعاونوا أيضاً بأشكال ودرجات مختلفة). هذه الصورة زالت اليوم، لأنّ التيارات المسيحية إمّا تتحالف مع «حزب الله»، أو تُزايد ضد إسرائيل. وفي المقابل، ربما يتعرض السنّي اللبناني للإحراج، لأنّ المرحلة تشهد انفتاحاً غير مسبوق بين إسرائيل والمحور العربي السنّي. لذلك، منعاً لأيّ التباس، لا المسيحي ولا السنّي سيقرّران في مسألة التفاوض مع إسرائيل، بل الشيعي «صاحب المقاومة» نفسه. فالرئيس بري يتحدّث مع السفير ديفيد ساترفيلد باسم الدولة التي يسيطر «حزب الله» على معظم قرارها، لكنه يتحدّث أيضاً من موقعه شريكاً لـ«الحزب» موثوقاً فيه.
رفض بري في اللقاءات الأخيرة ما حمله ساترفيلد. وأوحت أوساطه أنّ الرفض يتركز على تمسّك إسرائيل بالآتي:
1- فصل المفاوضات حول الحدود البرية عن المفاوضات حول الحدود البحرية.
2- الإصرار على مهلة محدّدة لإنهاء المفاوضات (6 أشهر أو9).
3- تقليص دور الأمم المتحدة لتكون راعية المكان فقط وتسليم الولايات المتحدة رئاسة الجلسات.
4- تبادل الأراضي بين البلدين في بعض المواقع البرية لإنهاء الخلاف على النقاط الـ13 الواقعة على الخط الأزرق.
في العمق، يريد لبنان مفاوضات تقنية حول الحدود برعاية الأمم المتحدة، لكنّ الإسرائيليين يريدونها مفاوضات سياسية ترعاها واشنطن، وتفتح الباب لإدخال لبنان في مفاوضات التسوية الآتية مع إسرائيل. وفي عبارة أخرى، تكون مفاوضات الحدود إحدى التطبيقات التمهيدية لـ«صفقة القرن» الآتية.
وتدرك إسرائيل أنّ لبنان مضطر إلى إنجاز ترتيبات الحدود ليدخل آمناً سوق النفط، وليتمكن من مواجهة مصر والأردن وقبرص واليونان وسائر أوروبا التي ارتبطت بشبكة خطوط تجتاز المتوسط من شرقه إلى شماله وغربه، بالتنسيق مع إسرائيل، وعبرت مناطق يعتبرها لبنان حقّاً له.
وسيكون صعباً على لبنان إقناع الأوروبيين والعرب بوقف عمليات الربط النفطي مع إسرائيل، لأنّ مصالحهم لا تسمح بذلك. فالمرحلة المقبلة ستكون حافلة بعمليات الربط المختلفة الأشكال بين العرب وإسرائيل وأوروبا.
وللتذكير، وزير الخارجية الإسرائيلي إسرئيل كاتس، كان في الإمارات قبل أيام، وناقش إمدادَ خطّ السكة الحديد من الخليج إلى ميناء حيفا، عبر الأردن والضفة. ومن حيفا سيربط إسرائيل بأوروبا بحراً… وبسائر مدن الشرق الأوسط برّاً. وكاتس كان وراء الفكرة عندما كان وزيراً للمواصلات.
وهذه الزيارة أعقبت المؤتمر الاقتصادي التمهيدي، أي الإغرائي، لـ»الصفقة» في البحرين. والذين يعتقدون أنّ المؤتمر فشل، سيكتشفون أنّ إسرائيل ما أرادت منه حالياً، أكثر من ذلك.
السؤال: ماذا لو أنّ الدول العربية التي تدعم لبنان اقتصادياً ومالياً، طلبت منه أن ينضمّ إلى التسوية… تحت طائلة «سحب يدها من فمه»، ومثلها فعلت القوى الدولية الداعمة (الولايات المتحدة وأوروبا)؟
وافق الإسرائيليون على تسهيل الأمور للبنان شكلياً، كأن تجرى المفاوضات في عرين الأمم المتحدة في الناقورة. لكنهم في المضمون يريدون أن ينزلق لبنان إلى المسار السياسي. وطبعاً، الأميركيون مستعدون للتسهيل. في اعتقاد البعض أنّ دور ساترفيلد سيكون مماثلاً لدور السفير موريس درايبر، في المفاوضات التي بدأت تقنياً لتأمين انسحاب إسرائيل من لبنان عام 1982، وانتهت في العام التالي، بعد 36 جولة، باتفاق 17 أيار.
وعلى رغم من أنّ المجلس النيابي وافق على ذاك الاتفاق، فإنّ الرئيس أمين الجميل رفض توقيعه لئلّا يخرب البلد، لكنّ إلغاء الاتفاق أدّى أيضاً إلى الخراب. والثمن دفعه مسيحيو الجبل والشحّار الغربي. للمصادفة (ربما) المكان نفسه الذي عمّه التوتر قبل أيام!
يقول البعض: حسنٌ أن يكون اليوم أمر المفاوضات في يد القوى الشيعية. فليقولوا رأيهم ونحن معهم. وبالتأكيد، هذا أسلم سياسياً وأمنياً. ولكن، هذا سيمنح «حزب الله» وإيران ورقة قوية. وإذا كانت إسرائيل تصارع لإبعاد إيران عن حدودها، فهي ستفاوضها في الناقورة.
بين لبنان وإسرائيل، إجتماعات دورية برعاية الأمم المتحدة تعالج الخروقات وتحلّ التعقيدات. ولكن ما هو منتظر أكبر من ذلك. فهل بدأ يتهيأ المناخ لـ17 أيار جديد؟ وهل يمكن أن ترفض إيران أيّ اتفاق يأتي ضمن صفقة شاملة تحفظ مصالحها؟
في السابق، زمن 17 أيار، كان لبنان يخشى السلام مع إسرائيل، فيما مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي «ارتكبت» معاهدة سلام. وأما اليوم، فخطوط «السلام» المكشوفة لا حصر لها… حتى إنّ لبنان سيصل متأخراً جداً عن سواه، بأيّ حال.