لم يسبق في تاريخ استحقاقات الموازنات في لبنان ان تحولت موازنة عنوانا لمصير حقيقي كما حصل ويحصل الآن. تكاد موازنة 2019 تختصر مسار النظام والسياسة والاقتصاد والمجتمع لا بفعل تراكم الازمات والاختناقات الداخلية عليها فحسب بل لان أداء الطبقة السياسية في السلطة بلغ حدود الانهيار الاسرع في تاريخ السلطات بعد سنة واحدة من الانتخابات النيابية.

والحال ان اي فريق لن يمكنه ان يخرج على الناس حين تقفل الصفحة الاخيرة من مخاض إقرار الموازنة بما يمكنه من التفاخر والغطرسة فيما الطبقة السياسية مهشمة في صورة سلطة قبلية تنتهك المواقيت والأصول الدستورية والقانونية من دون رفة جفن لمجرد احتمائها بتسوية تستقوي بها على عافية البلاد.

حين تقر الموازنة في الفترة المقبلة لن يكون فارق حقيقي بين دولة تتباهى بهذا الإنجاز ودولة أدمنت لسنوات ظاهرة الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية لان الفترة المتبقية للانتظام في الموازنة لن تتجاوز بعد نهاية تموز الخمسة اشهر.

لا يقف الامر هنا اذ ان المشهد الداخلي والخارجي المتصل بالموازنة لم يعد مجرد تدفق لتداعيات يومية حيال المستويات القياسية في العجز والمديونية والقصور عن كبح الفساد المتفشي في كل شرايين الدولة وقطاعاتها بل نكاد نشهد معركة وجودية يترتب عليها البناء لاستمرار الدولة والانتظام المالي والاقتصادي في الحدود الدنيا الملحة او السقوط في متاهات مخيفة تتردد أصداؤها مع كل تقرير يصدر هنا او هناك.

هذه المواجهة الصاعدة بين السلطات السياسية والمالية ومؤسسات التصنيف الدولية ليست حرفا عابرا يمر مع يوميات تطوى على تطمينات او اعادة تلطيف لمضامين التقارير، بل هي مواجهة اكثر خطورة من كل الثرثرة الداخلية الدائرة حول الموازنة والمالية العامة والتي تتلاعب فيها المآرب السياسية بخفة قياسية.

ثم ان المواجهات الطويلة التي واكبت وستواكب إقرار الموازنة بين الحكومة وقطاعات نقابية واجتماعية ووظيفية وعسكرية بماذا يمكن تسميتها ان لم تكن في اقل الاحوال انتفاضات واسعة متعاقبة تتحفز يوما للتجمع في اطار ثائر ؟

اذا كانت القطاعات العامة تقدمت المشهد المربك والمضطرب منذ بداية السنة فكيف لو جمعت اجزاء الدومينو الغاضب بين القطاعين العام والخاص بكل أزماتهما ورصفت امام البرلمان الذي يستعد للالتئام قريبا على وقع تهديدات بمحاصرته ومنعه من التشريع والمحاسبة والنقاش الا اذا اسقط سلفا بنودا من الموازنة ؟ وماذا تعني عسكرة الاحتجاجات والتهديد بتعطيل البرلمان غير تجاوز الواقع الداخلي للخطوط الحمر القديمة المتهالكة التي لا يزال معظم القوى السياسية يعيش وهم التلطي وراءها؟

كل هذا المخاض من اوله الى نهاياته الوشيكة يشكل سقوطا واقعيا لما كان يسمى الخطوط الحمر الاجتماعية بما يعني استحالة الزعم بان الاستقرار سيبقى مصانا متى بدأت الانهيارات الاجتماعية تتحول الى كرة ثلج ولو عند غرة الصيف اللاهب. واذا سلمنا جدلا بكل سذاجة بان عسكرة الاحتجاجات لم تكن الا نتيجة تراكمات من هنا وانفعالات ومبالغات من هناك فاي ضمان سيكون غدا لمنع التوظيف السياسي من مختلف الاتجاهات لاي تفلت قد يسبق ويواكب الفصل الختامي لموازنة أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد؟