هناك في استمرار ما اصطلح على تسميته أرض المعركة، وقد شكل لبنان هذه الأرض على مدى ١٥ عاماً من الحرب، وما زال حتى اليوم منذ انتهاء هذه الحرب عام ١٩٩٠ ساحة مفتوحة للرسائل الباردة والساخنة والمعرّضة للاشتعال في أي لحظة بسبب عدم القدرة على إعادة الاعتبار للدولة ودورها، ولكن أرض المعركة الفعلي والمباشر هذه المرة لم تعد لبنان، بل انتقلت إلى سوريا والعراق واليمن، وهذا لا يعني انه أصبح في موقع المحيّد كلياً، لأنّ «حزب الله» قادر في أيّ لحظة على جرّه الى المواجهة، ولكن يبدو انّ الحزب ولاعتبارات مختلفة أعاد إحياء معادلة «لبنان دولة مساندة لا مواجهة»، مع فارق أساسي انّ المتحكِّم بهذه المعادلة اليوم هو الحزب، فيما سابقاً كانت بيد الدولة.
وسقوط هذه المعادلة يكون عندما تقرر طهران فتح المواجهة على طريقة الأرض المحروقة او «عليّ وعلى أعدائي»، فتستخدم وتسخِّر كل إمكاناتها كوسيلة للحفاظ على وجودها ودورها، ولكنها لن تكون في وارد التضحية بكل أوراقها دفعة واحدة، وبالتالي استخدام ورقة «حزب الله» ستكون بمثابة الورقة الأخيرة التي يمكن ان تلجأ إليها وإلى كل أوراقها، في حال وصلت الأمور الى الحرب المفتوحة وعدم العودة إلى الوراء، وباستثناء هذا السيناريو فإنّ الحزب لن يكون في موقع المبادر، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أولاً، ربط «حزب الله» انخراطه في الحرب بمهاجمة إيران، أي انه لن يكون في موقع المبادر أو المهاجم، بل في موقع رد الفعل على استهداف طهران، ففي حال لم تستهدف إيران لن تشتعل المنطقة، وسيناريو الحرب ما زال مستبعداً حتى اللحظة في ظل إقتناع أميركي بأن إيران سترضخ من دون الحاجة إلى الحرب، وعدم الرد على إسقاط طهران طائرة أميركية من دون طيار يدخل في هذا الإطار، ولكن لن تستطيع الإدارة الأميركية عدم الرد في حال تكرّر المشهد وطهران تدرك ذلك جيداً، ويرجّح استمرار الوضع على حافة الهاوية، ولكن حتى ولو اندلعت الحرب، مَن قال إنّ طهران تريد أن ينخرط «حزب الله» في هذه الحرب؟
ـ ثانياً، الوضع في العام ٢٠١٩ مختلف تماماً عن العام ٢٠٠٦ عندما كانت طهران في عزّ صعودها بعد إسقاط نظام صدام عام ٢٠٠٣، وعندما كان النظام السوري، على رغم خروجه من لبنان، يشكل سنداً حقيقياً لمحور الممانعة، فيما لا نظام في سوريا اليوم وإيران محاصرة بعقوبات غير مسبوقة وبمشروع أميركي كبير للمنطقة ومواكبة إسرائيلية للخطة الأميركية.
وأحد الأهداف الأساسية لحرب تموز ٢٠٠٦ وقف دينامية انتفاضة الاستقلال وإعادة الوضع اللبناني إلى ما قبل خروج الجيش السوري من لبنان، فيما مصلحة الحزب اليوم تكمن في الحفاظ على الستاتيكو اللبناني، وأيّ مبادرة له في اتجاه الحرب تعني سقوط هذا الستاتيكو لغير مصلحته، والحزب في نهاية المطاف قوة محلية بعمق إقليمي، وكل الهدف الإيراني من إنشائه أن يكون لها موقع نفوذ متقدم في لبنان وفي المواجهة مع إسرائيل، ولا مصلحة لطهران بالتضحية بهذه الورقة المهمة في ظروف غير متكافئة ولأهداف لا علاقة لها بالأسباب الكامنة وراء إنشاء الحزب ولو كانت في عز حشرتها.
ـ ثالثاً، يدرك «حزب الله» أنّ انخراطه في الحرب أو جرّه إلى الحرب قد يكون هدفاً مزدوجاً أميركياً-إسرائيلياً، لأنّ الحزب، وفق وجهة النظر الأميركية -الإسرائيلية، في أضعف لحظة إقليمية منذ تأسيسه، إيران محاصرة بنحو غير مسبوق، النظام السوري موجود شكلاً، محور الممانعة انتقل إلى موقع الدفاع، رغبة عربية بالتخلص منه، ورغبة إسرائيلية بتغيير معادلة ٢٠٠٦ او الإنتقام من «حرب تموز»، ورؤية أميركية للمنطقة لا مشاريع ممانعاتية فيها، وبالتالي قد يكون هناك مَن ينتظر الحزب على دعسة ناقصة للاستفادة من كل الظروف المحيطة وتسديد ضربة موجعة جداً له.
ـ رابعاً، لا يشكل لبنان بيئة مساعدة للحزب في حال قرّر التورط بالحرب دفاعاً عن إيران، وهذا لا يعني أنه سيستفتي اللبنانيين في حال قرر اعتماد هذا الخيار، ولكنه لا يمكنه أن يتجاهل تداعيات خطوة من هذا النوع: عودة الإنقسام العمودي تحت عنوان السلاح المستخدم لأهداف غير لبنانية والمدمّر للبنان واللبنانيين، عدم تقبّل اللبنانيين توريطهم في حرب تحت عنوان لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، إنفراط الاستقرار والانتظام السياسي في مشهد قد يصعب ضبطه هذه المرة بسبب البطالة المرتفعة والوضع الاقتصادي الكارثي الذي يمكن أن يقود في حال اندلاع الحرب الى ثورة اجتماعية تطيح الأخضر واليابس، وكل ذلك على وقع تحوّلات إقليمية كبرى، وحتى البيئة الشيعية غير متحمّسة لإحياء كابوس ٢٠٠٦ وتدمير بناها التحتية وتهجير أهلها، وجميع اللبنانيين شاهدوا بأم العين النقمة على نواب «حزب الله» عشية الانتخابات النيابية، الأمر الذي دفع السيد نصرالله شخصياً الى وضع محاربة الفساد في مستوى محاربة إسرائيل بغية تنفيس نقمة الناس، وبالتالي حتى هذه البيئة لن تغطي حربه دفاعاً عن إيران.
وقد يقول قائل إنه في حرب يعتبرها «حزب الله» وجودية لن يأخذ هذه العوامل وغيرها في الاعتبار، ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع إطلاقاً أن يتجاهل هذه العوامل المؤثرة لبنانياً على وضعه لدى اتخاذه أيَّ قرار، فقرار الحرب ضمن بيئة مؤاتية شيء، وقرار الحرب ضمن بيئة غير مؤاتية شيء آخر مختلف تماماً، والبيئة اللبنانية بأكثريتها الساحقة لا تريد الحرب.
فما بين العوامل الخارجية والداخلية غير المساعدة لقرار «حزب الله» بالانخراط في الحرب دفاعاً عن إيران، فإنه من المستبعد أن يتّخذ قراراً سيكون بمثابة الانتحار، فيما من الأفضل له ولطهران الحفاظ على ورقة كلفت استثماراً هائلاً وشكلت تجربة ناجحة بالمفهوم الممانع، والدخول في عملية تفاوضية تحافظ فيها طهران على أذرعها بدلاً من تدميرها.
وحيال كل ما تقدّم يمكن القول إنّ طهران لن تستخدم ورقة «حزب الله»، والحزب لن يغادر حدود التهويل الى الترجمة العملية، وبالتالي لن يدخل الحرب ولو استهدفت إيران أميركياً، ما يعني أنّ «النأي بالنفس» سيبقى مُصاناً والصيف سيكون ساخناً بطقسه وبارداً بسياساته باستثناء الجبهة الباسيلية التي تحوّلت مصدراً دائماً للتوتر والتوتير.