يَذكر إيڤو دَلْدِر (Ivo H. Daalder) أحدُ مستشاري باراك أوباما، أنَّ الأخيرَ، لدى مغادرتِه البيتِ الأبيض سنةَ 2017، تَرك على مكتبِه الرئاسيِّ ورقةً لخَلفِه دونالد ترامب يَنصَحُه فيها بما يلي: «علينا كأميركيّين أن نكونَ المِثالَ، قولًا وفعلًا، في المحافظةِ على النظامِ الدوليِّ الذي يَتطوّرُ بثَباتٍ منذ انتهاءِ الحربِ الباردة، فمصيرُ ثروتِنا وأمنِنا يَتوقَّفُ عليه». لكنَّ ترامب أهملَ النصيحةَ وأَخذَ مَنحىً مغايرًا.
اللافتُ أكثر، أنَّ ترامب يَدّعي المحافظةَ على النظامِ العالميِّ وأمنِ الشعوب، فيما يَهدِمُ يوميًّا هذا النظامَ ويُعرِّضُ الشعوبَ للخطر. والواضِحُ أنَّ ترامب يريد «أميركا أعظمَ دولةٍ في العالم»، فيما يلعب أدوارًا صغيرةً ولا يَتصرّفُ بمستوى رئيسِ دولةٍ عظيمة. لذلك يَجدُر بالأطرافِ اللبنانيّةِ مواكبةُ التطوّراتِ الإقليميّةِ والدوليّةِ والتَحوُّطُ منها ريثما تلوحُ معالمُ النظامِ الدوليِّ الجديد، وتتَّضِحُ أبعادُ النزاعِ الأميركيِّ/الإيرانيِّ المخفيّةُ وراءَ الملفِّ النوويّ.
إن إدارةَ ترامب المَلفَّ الإيرانيَّ والمَلفّات الأخرى تُربِك أطرافَ النظامِ الدوليِّ كافةً، وتَنعكِس سلبًا على دولِ الشرق الأوسط. حلفاءُ واشنطن يَفقِدون ثَقتَهم بها ويُعارضون نهجَها في معالجة ِالقضايا الإقليميّةِ والدوليّة، لكنَّهم يَصبِرون علَّ الانتخاباتِ الرئاسيّةَ الأميركيّةَ المقبِلةَ تأتي بغيرِ ترامب. لقد اخْتلقَ ترامب إشكاليّاتٍ تَعذّرَ على الدولِ الإقليميّةِ التكيّفُ معها، ما أدّى إلى إضعافِ السلطاتِ الحاكمةِ وبروزِ حالاتِ اضطرابٍ وضَياعٍ في مختلفِ أنحاء العالم. آخِرُ مثالٍ على ذلك هو ضَياعُ الدولِ العربيّة، بما فيها لبنان، حيالَ قراراتٍ أميركيّةٍ فُجائيّةٍ أو صادمةٍ كــــ: الانسحابِ المباغِت من سوريا، والتراجعِ الأحاديِّ عن الاتفاقِ النوويّ، وإرسالِ قواتٍّ بحريّةٍ وجويّةٍ قُبالةَ مضيقِ هرمز، والاعترافِ الوَقِحِ بأورشليم مُوحَّدةٍ عاصمةَ إسرائيل، وبتأييدِ ضمِّ الجولان إلى الدولةِ العِبريّة، وبإطلاق الشِقِّ الاقتصاديِّ المشبوه من صفقةِ القرن...
هكذا تسودُ حاليًّا في دولِ العالم، بخاصةٍ في الدولِ صديقةِ أميركا، قناعةٌ بعجزِ أميركا عن قيادة العالمِ بشكلٍ رشيدٍ ومتَّزِنٍ ومسؤول. وإذا كانت هذه القناعةُ تعاظمت مع انتخاب دونالد ترامب، فإنها برزت في عهدِ باراك أوباما الذي تميّز بالتردّدِ والخوفِ تجاه قضايا دوليّةٍ عديدةٍ (أفغانستان، العراق، السعوديّة، سوريا وجورجيا).
على العموم، النظامُ الدوليُّ الذي نَشأ تدريجًا بعد الحربِ العالميّةِ الثانيةِ من القرنِ الماضي ينهار تدريجًا بوَجهَيه العالميِّ والإقليميّ، وبمستوياتِه السياسيّةِ والعسكريّةِ والحضاريّةِ والاقتصاديّةِ، تمامًا مثلما انهارَت الأمبراطوريّاتُ بعد الحربِ العالميّةِ الأولى. الواحدُ تِلو الآخَر تَسقط الأنظمةُ الإقليميّةُ في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. منها مَن يَسقُط بالثوراتِ، ومنها بالانقلاباتِ، ومنها بالانتخابات. لم يكن منطقيًّا أن يَتغيّرَ النظامُ السوفياتيُّ في آسيا وأوروبا، وهو أحدُ رُكنَي النظامِ العالميّ، ويَبقى الركنُ الآخَرُ قائمًا بالعزّةِ والكرامة، خصوصًا أنَّ قادتَه، لاسيّما في الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة، لم يكونوا على مستوى التغييرِ التاريخي. فإذا كان الظلمُ دَفعَ الشعوبَ في الدولِ الشيوعيّةِ إلى الثورة، فالرأسماليّةُ المتوحِّشةُ حَثَّت الشعوبَ في الدولِ الليبراليّةِ على التغيير.
بعد سقوطِ الشيوعيّةِ، ظنَّت واشنطن أنَّ دورَها في حراسةِ العالمِ الحرِّ انتهى، فتفاجَأت بالعسكريتاريا والتطرّفِ الإسلاميّ، القوتين اللَتين غَذَّتهما في الثمانيناتِ لمواجهةِ الاتّحادِ السوفياتي، وبالثورةِ الخمينيّةِ، التي تَغاضت عنها لإضعافِ الحالةِ السنيّةِ، تَتحوّلُ جميعًا أخطارًا عليها وعلى العالم. وهكذا اضُطرّت واشنطن لا أنْ تبقى حارسَ العالمِ فحسب، بل إلى أن تُصبحَ مَدفعيَّ العالم، وتورطَّت في سلسلةِ حروبٍ مُضنية.
منذ أواخر القرنِ الماضي إلى اليوم، بَدت أميركا، مع جيلِ رؤسائِها الجدد، غيرِ المجرَّبين في السياسةِ الخارجيّة، المسبِّبةَ الأساسيّةَ في انهيارِ هذا النظامِ العالميّ، فيما هي كانت الراعيةَ الأساسيّةَ سنةَ 1945 على أُسسِ القوانينِ والشرائعِ الدوليّةِ واحترامِ التحالفِ مع دولِ العالمِ الحرّ. المؤسفُ أن الرئيس ترامب يُزعزعُ أكثرَ من سواه هذا النظامَ ويَعتبره مصدرَ مشاكلِ الولايات المتّحدةِ الأميركيّةِ وضعفِها، وراح يَنسحب من الاتّفاقاتِ والشَراكاتِ الدوليّةِ ويَفرِضُ الضرائبَ والرسومَ على حلفاءِ أميركا.
هذا التخبّطُ الأميركيُّ المفتوحُ استغلّتْهُ دولٌ أخرى لكي تَلعب أدوارًا جديدة: روسيا والصين تسعيان ـــ من دون نجاح ـــ إلى إعادةِ صياغةِ العالم على قياسهِما. الهند والبرازيل تحبّذان لَعِبَ دورِ قوتَين عُظمَيَين من دون أنْ تَتحمَّلا مسؤوليّةً دوليّة. إيران وكوريا الشماليّةُ تمارسان بتفوّقٍ دورَ الدولتين المشاغبتَين المتمرِّدتين على القوانين الدولية. وبموازاةِ هذه الدول، تَترنّحُ المؤسّساتُ الدوليّةُ الجامعةُ: الأممُ المتّحدةُ، الاتحادُ الأوروبي، آسْيان، وأَلينا، جامعةُ الدولِ العربيّة، حلفُ شمالي الأطلسي، والكومنولث، إلخ...
تجاه هذا الواقعِ الجديد لا بدَّ من ابتداعِ نظامٍ عالميٍّ آخَر. هناك مجموعةُ دولٍ كبيرةٍ وقويّةٍ اقتصاديًّا وعسكريًّا مثل الاتحادِ الأوروبيِّ وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية وكندا وأستراليا قادرةٌ على تأليفِ حلفٍ قياديٍّ جديدٍ يُعوّضُ تخلّي أميركا عن دورِها الرياديِّ السابق. إذا اضْطلَعت هذه المجموعةُ الدوليّةُ بدورِها الجديد، تُطَمئنُ الدولَ الإقليميّةَ والصغيرةَ من جِهة، ومن جهة أخرى تؤخِّرُ سقوطَ النظامِ العالميِّ الذي وفّر لها الازدهارَ والاستقرارَ والمناعةَ. وليست مصادَفَةً أن يَطلبَ الرئيسُ ترامب، الموجودُ في المأزِقِ الإيرانيّ، من رئيسِ حكومةِ اليابان ومن رئيسِ فرنسا التوسُّطَ بين واشنطن وطهران.
نجاحُ هذه المجموعةِ العالميّة يَتوقّفُ على إرادتِها وعلى مدى إعطائِها الأولويّةَ للاستثمارِ في مشاريعِ تنميةِ الإنسانِ والمجتمعِ ومحاربةِ الفقر والبطالة من دون إهمالِ الحقوقِ الوطنيّةِ للشعوب على غرارِ مشروعِ «صفقة القرن» الذي ليس سوى «رشوةٍ وطنيّة». اعتمادُ التحالفِ الدوليِّ الجديد نهجَ التنميةِ، عوضَ نهجِ التسليح، يلتقي مع مرتكزاتِ النهجِ الأميركيِّ الأساسي. فالرئيسُ الأميركي هاري ترومان ركّز نظامَ ما بعدَ حربِ 1939 ـــ 1945 على أربعةِ أُسسٍ هي: الأمنُ الجماعيّ، الأسواقُ المفتوحة، الشراكةُ عوضَ التنافس، ونشرُ الديمقراطية. وأول ما قدّمته الولاياتُ المتّحدة لأوروبا بعد الحربِ العالميّةِ الثانية كان «مشروعَ مارشال» الإنمائيّ بموازاةِ «حلفِ شمالِ الأطلسيّ» العسكري.
هذه التحوّلات الكبرى أين منها القادةُ اللبنانيّون؟ هل سَمِعوا بها؟