أمّا سقراط، فقد سعى جاهداً لهدم مبدأ مذهب الفكر السوفسطائي في عصره، وكان معتنقوه مجموعة من المعلّمين ينتشرون في بلاد اليونان يتّخذون التدريس حرفة لهم، ويسافرون إلى بلادٍ عدة، للتبشير والتوعية، ويجمعون من حولهم طلبة يمنحونهم أجراً على تعليمهم. ومن أبرز فلاسفته غورجياس السوفسطائي، الذي كتب كتاباً عنوانه «الطبيعة أو اللاوجود»، حاول فيه أن يقيّم الدليل على هذه القضايا الثلاث: «لا شيء موجود»، «إن وجد شيء فلا يمكن أن يعرّف»، «وإذا أمكن أن يعرّف فلا يمكن إيصاله إلى الغير».
وقد آمن سقراط بأنّ المبادئ ثابتة على مدى العصور، وأنّ على الإنسان دائماً العودة إلى ذاته، ليبحث عن هدف وجوده ومعنى العالم من حوله، حتى يصل إلى الحقيقة المطلقة.
تفكيك الأنا
أمّا نيتشه، الذي اشتهر بمقولة «ليس ثمة حقيقة، هناك فقط تأويلات»، فسعى إلى تفكيك «الأنا»، والإيمان بالحقيقة التي يتم اكتشافها وخلقها ولا يمكن أن تُمنح لأحد.
حتى الفضيلة أو المثالية التي بحث عنها سقراط في جدله وتصويره الفلسفي، بالغ به نيتشه ليبحث عن فكرة الرجل الخارق. وفي كتابه «أفول الأصنام»، حاول نيتشه أن يشنّ هجوماً عاصفاً على فكر سقراط، متّهماً إيّاه بالجنون والهذيان، ليحطّ من قدره مشدّداً بأنّه ليس أصيلاً لدى الإغريق، بل فكره حصيلة فسادٍ وانحدار.
تشدّد أخلاقي
ولطالما عُرف عن سقراط توجّهه للتشدّد الأخلاقي، بينما حارب نيتشه كلّ رجال الدين، والفكر المتصوّف والمتديّن، داعياً للتحرّر من أغلال التبعية للإله، أو إقامة الشعائر الدينيّة له، وبلغ به الإلحاد حدّ التهجّم على مَن يدعو إلى الفضيلة والأخلاق الحميدة، زاعماً أنّ الأمر برمّته حريةٌ فردية لا شأن للمجتمع والناس بها.
قال نيتشه منتقداً فلسفة سقراط: «إنني أجهد نفسي لمعرفة المزاج، الذي وجدت منه هذه المعادلة السقراطية: عقل = فضيلة = سعادة. أغرب المعادلات الممكنة، و التي ترفضها على الخصوص كل غرائز الإغريق القدامى».
وعندما نظر سقراط إلى المعرفة على أنّها المصير الحقيقي للفكر الإنساني، والغاية القصوى لوجوده على الأرض، أثار سخط نيتشه الذي لطالما آمن بالعقل المادي، وبالعلم والمنطق، وهو الذي تشبّث بمبدأ أنّ الأخلاق من صنع الإنسان وحده.
نيران حارقة
الفلسفة خطوط تماس، قد تنضح بشرارةٍ تقدحُ بالفكر العميق، وقد تكونُ نيراناً حارقة، تأكلُ كلّ ما يعترضُ طريقها، وقد فنّد نيتشه أهمّية الميتافيزيقيا في الكون، وشدّد على سطح الواقعية، بينما غاص سقراط في خبايا الماورائيات، ومهّد للفكر المسيحي، بكلّ حثيثياته وتفاصيله الصوفية والروحية الدقيقة، حيث آمن بالحياة بعد الموت، لدرجة أنّه قنع بحكم الإعدام الذي نُفّذ به من قبل آثينا راضياً مستتبَّ البال، بأنّ حياة آخرى تنتظره في العالم الآخر.
أمّا نيتشه فقد ميّز بين أخلاق السادة والعبيد، وأكّد أنّ القيَم هي من وحي الواقعية التي يحياها الإنسان ولا علاقة لها بالآخرة والحياة الثانية بعد الموت، ومن هنا كان مأخذ نيتشه على الحياة الفلسفية الإغريقية في زمن سقراط، وفي هذا قال نيتشه: «إنّ الفلسفة اليونانية المتأخرة إنما هي عبّرت عن انحطاط النازع اليوناني».
وقد تبهرج سقراط بالعقل كسلاحٍ فعّال للمشكلات الكونية العالقة، بينما تزعّم نيتشه مدرسة النقد العقلي لكلّ ما هو مباح وغير مباح، فجاءت تجربةُ الإثنين حافلة بالتبريرات والتكهّنات والتأويلات التي لا يمكن الإستناد اليها بشكلٍ حرفي.