شهد لبنان خلال الاشهر المنصرمة سيلاً من التعليقات على الاوضاع المالية والاقتصادية ومن يقرأ يظن ان المعلقين مقيمون على القمر. فغالبية المقالات والتعليقات، لا تعبر عن معرفة حقيقية بالأوضاع وفي غالب الاحيان تعبر عن رغبة في ارضاء مصادر سياسية أو مؤسسات تابعة للقطاع العام.
تلقيت خارج نطاق التعليقات الهزيلة في المحتوى والمنطق دراسة عنوانها بالإنكليزية Can Lebanon Defy Gravity أي هل يمكن لبنان ان يتحدى قوانين الجاذبية التي تشده هبوطاً الى ازمة مالية اقتصادية؟
الدراسة أنجزها لحساب الاتحاد الاوروبي فريق من عشرة خبراء يرأسهم Uwe Bower بينهم موقع نسخة الدراسة وهذه تقع في 12 صفحة ومعدّة للتوزيع في تاريخ 16/6/2019. الخبراء المعنيون غير لبنانيين وقد تكون هنالك فائدة من التزام المعايير الجدية للتحليل الاقتصادي.
العنوان، هل يستطيع لبنان ان يتحدّى قوانين الجاذبية الى ما لانهاية؟ الخبير الذي صاغ هذا التساؤل كان فريد بلحاج رئيس بعثة البنك الدولي الى لبنان لسنوات ومنذ سنتين تولى نيابة رئاسة البنك الدولي لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وهو أصلاًً تونسي مثقف وهو الذي صرح بان لبنان لن يحوز مساعدة من البنك الدولي على مستوى 3.6 مليارات دولار ما لم يلتزم اصلاحات مصلحة كهرباء لبنان المقترحة منذ نحو عشر سنين.
بداية تشير الدراسة الى ان الضغط تعاظم لمشكلة تزامن سبيين للعجز، ارتفاع مستويات الدين العام قياسًا بالدخل القومي، وانخفاض الانتاجية في مختلف القطاعات وانخفاض معدل النمو الى 1 في المئة عام 2018 أي أقل من معدل تزايد عدد السكان المقدر بـ2.5 في المئة ما عدا تزايد عدد المهجرين.
ويعتبر الفريق الذي أعدها أن الوضع السياسي غير المستقر، وتراجع الثقة بالسياسات المالية والاقتصادية، وتعاظم المشاكل الهيكلية، كلها أمور تستنزف الامكانات والبرامج الهزيلة المطروحة والتي لا تؤمن العلاج المطلوب.
تقول الدراسة ان العجز على الحساب الجاري يقارب نسبة 27 في المئة من حجم الدخل القومي، وحاجات التمويل اصبحت ملحة لان التحويلات للايداع في لبنان قاربت ان تصير سلبية (بمعنى خسارة الايداعات مقابل التحويلات الى الخارج) وهكذا كان الوضع خلال الشهرين الاولين من هذه السنة. وعلى رغم دعم مصرف لبنان برامج هدفها الحفاظ على سعر صرف الليرة، ارتفعت تكاليف الاقتراض، وباتت القروض غير متوافرة لان اسعار الاقراض تعجيزية. وعدم توافر القروض يعني انحسار فرص النمو وتراكم نتائج اهمال البنية التحتية.
والمشاكل الهيكلية، وأهمها خسارة قطاع الكهرباء وانقطاع التيار، وتوسع الفساد، اسهمت في تراجع صدقية لبنان على صعيد دولي.
وتسعى الحكومة الى تنفيذ برنامج يساعد في استعادة النمو المستمر اعتمادًا على برامج للاستثمار في المشاريع الحيوية، والاعتماد هو على توافر تمويل على مستوى 11.2 مليار دولار لفترة طويلة مقابل فوائد متدنية، كما طرح الموضوع في مؤتمر “سيدر” في باريس قبل 14 شهرًا.
وقد التزمت الحكومة خفض مستوى العجز بما يساوي 1 في المئة من الدخل القومي سنويًا على مدى خمس سنوات، لكن المؤشرات المتوافرة عن حسابات 2019 توحي بارتفاع العجز عما كان يساوي عام 2018 أي 11.5 في المئة من الناتج المحلي.
خدمة الدين باتت تبتلع 50 في المئة من العائدات الضريبية، ودعم قطاع الكهرباء المهترئ يحوز 15 في المئة، والنفقات مع ارتفاع حجم الدين العام ترتهن بمعدلات الفائدة الممكن الحصول عليها وهذه على ارتفاع.
ان مستوى الدين قياسًا بحجم الانتاج على ارتفاع ويقدر ان يبلغ 180 في المئة في 2023 وان تستمر النسبة في الارتفاع، وهذا الوضع حسب صندوق النقد الدولي غير قابلة للاستمرار. والمعونات الخارجية لا تبدو متوافرة بسرعة. فاعلان قطر مساهمتها بـ500 مليون دولار الذي اعلن عنه مطلع السنة لم يترجم عمليًا حتى تاريخه، وكان أصلاًً اعلاناً لهدف سياسي لقطر.
تفيد الدراسة أن منع التهرب من الضريبة على القيمة المضافة يمكن ان ترفع المداخيل بنسبة 3.3 في المئة نسبة الى الناتج المحلي، وان الغاء الاعفاءات من هذه الضريبة يمكن ان تسهم في تحسين المداخيل بنسبة 4.1 في المئة وكلا التحسينين يؤديان الى مقاربة ارقام الموازنة المستويات المطلوبة.
اللغز الاساسي هو تأمين الكهرباء بكلفة متدنية تسهم في تشجيع الصناعة، والمعالجات الصحية وتنقية المياه، لكن الحكومة تبقى غائبة عن هذا الموضوع لسبب غير معروف.
اغفال تأثير معالجة قضية الكهرباء أكبر برهان على عجز الحكومة عن اجتراح حلول اساسية لاستعادة القدرة على النمو وديناميكيته.
لبنان كان يعيش على تجارة الترانزيت، تصدير المجوهرات الى سويسرا، تصدير المنتجات الزراعية الى بلدان الخليج، وعلى نشاط السياحة. كانت هذه النشاطات تؤدي الى تغطية 36 في المئة من الدخل القومي، وقد اصبحت بسبب السياسات المتبعة مغيبة على رغم الكلام الكثير عن عجائب السياحة وقلة الكلام عن تلوث المياه والمناخ، وغلاء الاسعار.
عام 2009 حول اللبنانيون من ادخاراتهم في الخارج مبلغ 24 مليار دولار الى لبنان اقتناعًا منهم بان المصارف اللبنانية تحوز ثقة أكبر من المصارف الاجنبية وقد ساهمت تلك التحويلات في تمويل عجز ميزان المدفوعات لسنوات.
اليوم مع ندرة الحلول المقترحة، تتوجه الدولة نحو تحميل المصارف اقراض الدولة مبلغ 11 الف مليار ليرة لبنانية، أي 7.5 مليارات دولار، بمعدل فائدة 1 في المئة، وهذا التوجه يستند الى تقدير الوزراء ان ارباح المصارف بالغة الارتفاع، والعكس هو الصحيح.
القطاع المصرفي نجح لمعاصرته مستوجبات الادارة والتجهيز، لكن القطاع ككل حسب الدراسة يحتاج الى رفع نسبة الرسملة والى معالجة الديون المتعثرة والتي يقدر أنها توازي 7.5 في المئة من الاقراض والحقيقة انها تزيد عن نسبة 10 في المئة.
من المؤكد أن قطاع المصارف غير قادر على توفير المبالغ المشار اليها، والتوجه الى قطاع المصارف يبرهن عن قلة الخبرة الاقتصادية للمسؤولين. فقدرات المصارف محدودة وامكانات التضخم في حال توفير مبلغ كهذا مباشرة من مصرف لبنان غير محدودة وقد تؤدي الى ازمة نقدية وتزعزع سعر صرف الليرة وتقضي على آخر مؤشرات تمتع الاقتصاد اللبناني بالقدرة على التعافي. دين الـ11 الف مليار ليرة سيكون بمثابة اعلان عجز نهائي وبعثرة مساعي مصرف لبنان وانطفاء وهج القطاع الاخير المتمتع ببعض الصحة، فعسى ان يدرك المسؤولون انهم يلعبون بالنار حينما يطلبون 11 الف مليار ليرة لبنانية من اجل تغطية تسليف الكهرباء 2500 مليار، وكأن الاموال تتوافر من جيوب اللبنانيين. واللبنانيون يعانون ندرة توافر المدخرات نتيجة السياسات المتبعة التي تناقض تاريخ لبنان حينما ازدهر.