كما كان متوقعاً وأكثر من ذلك، وكما كان معروفاً عند القاصي والداني، لم يقارب مجلس الوزراء الذي انعقد أمس في السراي الحكومي، ملف التعيينات في الإدارات العامة وفق ما ينص عليه الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، وأُرجئ هذا الملف إلى جلسة مقبلة تعقد برئاسة رئيس الجمهورية الذي لا يملك وفق الدستور ووثيقة الوفاق الوطني أية صلاحيات تخوّله التحكم بقرارات مجلس الوزراء ما عدا ترؤسه الجلسة في حال حضوره، وعدم مشاركته في التصويت على مقررات المجلس، فمن أين أتوا بهذه البدعة؟ وماذا تبقى من الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، وأكثر من ذلك؟ ماذا تبقى من صلاحيات لرئيس مجلس الوزراء المنوط به والمؤتمن على احترام الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، وعلى تطبيق ما ينصان عليه، سواء لجهة آلية عمل مجلس الوزراء أو لجهة إدارة دفة الحكم.
ما حصل على هذا الصعيد يُؤكّد أن وراء ما يحصل أمر خطير، أقله تجاوز اتفاق الطائف، والعودة بحكم الأعراف إلى ما كان قبله، أي إلى حصر كل الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، سواء ما يتعلق منها بالتحكم بقرارات مجلس الوزراء وفرض إرادة الرئيس العليا، أو بالنسبة إلى التفرّد بسياسة الدولة العامة، فيما المسؤولية والمحاسبة امام السلطة التشريعية أو سلطة الرقابة تقع على رئيس الحكومة والحكومة مجتمعة. فهل انتهى اتفاق الطائف وجاء دور الحكم القوي للتفرد بالقرارات والسياسات العامة ليتحوّل رئيس الحكومة إلى باش كاتب كما كان الحال عليه قبل التوصّل إلى اتفاق الطائف بعد حروب ضروس بين اللبنانيين وطوائفهم استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً.
والسؤال المطروح اليوم بين أبناء طائفة رئيس الحكومة، هو هل تخلى عن صلاحياته لرئيس الجمهورية؟ وبكلام أكثر وضوحاً هل رضي بالتخلي عن الشراكة الحقيقية في الحكم التي أرساها اتفاق الطائف لصالح الرئيس القوي الذي لم يعترف مرّة باتفاق الطائف، واقدم على حل مجلس النواب عندما كان رئيساً للحكومة التي شكلت بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في أواخر ثمانينات القرن الماضي؟ وإذا كان الحال غير ذلك، فلماذا لا يمارس رئيس الحكومة صلاحياته كما ينص عليه اتفاق الطائف، ويترك كل القضايا الأساسية كما هو واقع الحال، للبت فيها، بالجلسات التي يترأسها رئيس الجمهورية، مثل التعيينات الإدارية وكل القضايا المهمة التي عرضت في السابق على مجلس الوزراء، وفوق كل ذلك، يعتب على حلفائه لأنهم تخلوا عنه، مثل الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب القوات اللبنانية وحتى تيّار المردة ورئيسه الذي تربطه به علاقة استراتيجية عبّرت عن نفسها في تبني ترشيح رئيس التيار لمنصب رئيس الجمهورية. ولا يبالي أيضاً بكل التحذيرات التي اطلقها رؤساء الحكومة السابقون وكل أهل العلم والمعرفة ورجال الدين من التطاول على صلاحيات رئاسة الحكومة وتجاوز الدستور ووثيقة الوفاق الوطني التي انبثقت عن اتفاق الطائف.
بعد كل هذه التنازلات التي حصلت لمصلحة الرئيس القوي بات المطلوب اليوم قبل الغد من رئيس الحكومة إما أن يمارس صلاحياته، بل كل صلاحياته وفق ما ينص عليه الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، ولا يترك لأي كان الافتئات على هذه الصلاحيات أو تجاوزها، وإما أن يتخلّى ويترك لغيره تحمل المسؤولية.