من إسطنبول كان صعود نجم رجب طيب أردوغان. من إسطنبول بدأ أفول نجم رجل اعتقد أن المزايدات تغني عن الإنجازات بعدما حقق طموحه المتمثل في تغيير طبيعة النظام الجمهوري في تركيا، وحصر كل المسؤوليات والسلطات في رئيس الجمهورية. استطاع الجمع بين موقعي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في شخصه. صار من نوع الحكّام الذين لا يتحملون وجود أي سياسي ذي وزن بين أفراد فريق عمله.
هزَمَ أكرم إمام أوغلو أردوغان في إسطنبول وذلك للمرّة الثانية في غضون أقلّ من ثلاثة أشهر. ليس مهما من ترشّح في مواجهة إمام أوغلو. كانت بلدية إسطنبول معركة شخصية لأردوغان الذي اكتشف، هذا إذا اكتشف، أنّ كل المحاولات التي بذلها من أجل إعادة الانتخابات في إسطنبول كانت محاولات يقوم بها رجل يائس لم يدرك أن أحداث السنوات التي تلت انتخابه رئيسا للجمهورية لم تكن هزيمة لشخصه فحسب، بل كانت أيضا هزيمة لكلّ ما يمثله من فكر متزمت هو فكر الإخوان المسلمين.
لا يختلف اثنان على أن أردوغان ينتمي إلى تنظيم الإخوان وكان رهانه على هذا التنظيم كي يثبت أنّه أكبر من رئيس لتركيا. أراد إظهار أنّ في استطاعته تأمين تمدد لتركيا في كلّ الاتجاهات واستعادة أمجاد السلطنة العثمانية. لا يعرف أردوغان أن الإخوان المسلمين ليسوا سوى تنظيم يصلح لكلّ شيء باستثناء تولي المسؤوليات في دولة حديثة وإدارتها. يصلح التنظيم كي يكون جهازا أمنيا وهناك من عرف كيف يوظّفه في هذا المجال خدمة لأهداف معيّنة لهذا الطرف.
في المرّة الأولى التي فاز فيها أكرم إمام أوغلو في انتخابات بلدية إسطنبول، كان انتصاره على منافسه بن علي يلدرم بفارق 13500 صوت. بين الواحد والثلاثين من آذار – مارس الماضي، حين أجريت الانتخابات للمرة الأولى والثالث والعشرين من حزيران – يونيو الجاري، حين أجريت الانتخابات للمرّة الثانية، قفز الفارق إلى 800 ألف صوت. إن دلّ ذلك على شيء، فإنّه يدل على أن الشعب التركي يعرف تماما أن رجب طيب أردوغان ليس سوى سياسي فاشل بعدما كان في مرحلة معيّنة محطّ كل الآمال.
تبيّن بكل بساطة أن أردوغان ليس سوى إخونجي آخر لا حدود لشبقه إلى السلطة على كلّ المستويات، بما في ذلك داخل حزب العدالة الذي ينتمي إليه والذي بات خاليا من القيادات الحقيقية بعد وضع عبدالله غل وأحمد داوود أوغلو على الرفّ. ثمّة كلام عن احتمال قيام حزب جديد على رأسه داوود أوغلو.
ردّد أردوغان نفسه، عندما كان رئيسا لبلدية إسطنبول في تسعينات القرن الماضي، أنّ “من يخسر إسطنبول يخسر تركيا”. إنّه الآن في طريقه إلى خسارة تركيا التي قاوم شعبها محاولة واضحة لفرض ديكتاتورية جديدة على البلد شبيهة بديكتاتورية العسكر في ثمانينات القرن الماضي.
لم تخرج تركيا من ديكتاتورية العسكر لتقع تحت ديكتاتورية الإخوان المسلمين. تلك هي الرسالة الواضحة التي أراد أهل إسطنبول توجيهها إلى الرئيس التركي الذي لم يعرف أن ليس في استطاعته “التغطية على الحقيقة عن طريق دفنها”. كان هذا التعبير الذي استخدمه إمام أوغلو بعد صدور نتيجة الانتخابات.
ما الذي جعل رجب طيب أردوغان يتلقّى مثل تلك الصفعة؟ هل هي الثقة بالنفس التي جعلته يظنّ أن لا أحد يستطيع إلحاق الهزيمة به… أم أن الصفعة نتيجة تراكمات عائدة إلى أن الرجل لم يعد قادرا على سماع أي رأي مخالف لرأيه؟ لو قرأ جيدا ما ورد في الرسالة المفتوحة التي وجهها إليه داوود أوغلو، مباشرة بعد الانتخابات البلدية أواخر آذار – مارس الماضي، لما كان عناده قاده إلى الطعن بنتيجة انتخابات إسطنبول. بدل الطعن بنتيجة تلك الانتخابات، كان الأجدر بأردوغان التمعّن بالنتائج وأسباب خسارة أنقرة وإسطنبول وقتذاك.
في أحيان كثيرة، السلطة تُعمي. لو لم تكن السلطة تُعمي أشخاصا من أمثال رجب طيّب أردوغان، لما كان معظم الكتاب والمثقفين والصحافيين البارزين الأتراك مشرّدين في أنحاء مختلفة من العالم. لو لم تكن السلطة تُعمي، لما كان الرئيس التركي تصرّف بالطريقة التي تصرّف بها بعد فشل الانقلاب الذي وقع في الخامس عشر من تمّوز – يوليو 2016. كان ذلك الانقلاب الذي جعل أردوغان يفقد صوابه وراء حملة على الضباط والقضاة والمحامين والصحافيين والأدباء ومعلّمي المدارس. كان أردوغان يرى شبح فتح الله غولن خلف كلّ من يشك في ولائه لشخصه.
كان تحسّن الاقتصاد التركي يغطي في مرحلة معيّنة على أخطاء رجب طيب أردوغان. وما أكثر هذه الأخطاء التي يرتكبها شخص لم يع في العام 2010 أنّه يؤذي الفلسطينيين في غزّة أكثر بكثير مما ينفعهم عندما حاول كسر الحصار على القطاع. من يتذكّر الفشل الذريع الذي لحق بتركيا لدى محاولتها إدخال مواد غذائية من البحر إلى القطاع المحاصر.
أراد أردوغان لعب دور البطل فإذا به أسير لعبة استطاعت إسرائيل التحكّم بنتائجها بعد إجبار السفن التي أرسلها إلى القطاع على التراجع. كانت الحصيلة أن أردوغان تحوّل إلى مجرّد بائع أوهام للفلسطينيين في غزة، كأنّه لا يكفي هؤلاء ما يعانونه من الظلم الذي تمارسه “حماس” من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.
ليست هزيمة الرئيس التركي في إسطنبول سوى تتويج لسياسة اسمها الارتجال. كان هناك ارتجال في كلّ شيء، بما في ذلك في سوريا أو في طريقة التعاطي مع كلّ من الولايات المتحدة وروسيا.
يظلّ الفشل الأكبر لأردوغان فشلا سوريا. وعد الرئيس التركي الشعب السوري بالكثير، لكنّ تردّده المستمرّ جعل من تركيا لاعبا أخيرا في سوريا بدل أن تكون اللاعب الأوّل وصاحب القرار على الأرض. انتهت تركيا إلى لاعب يحاول تلمّس طريقه في ظلّ الاحتلالات الأميركية والروسية والإيرانية والإسرائيلية. كانت هناك فرصة فوّتها أردوغان، بسبب تردّده وسعيه إلى التذاكي، في بلد كان أكثر من طبيعي أن تكون فيه الكلمة الأولى والأخيرة لتركيا.
نعم، إنّها بداية النهاية لرجب طيب أردوغان الذي تبيّن أنّه سياسي آخر من سياسيي العالم الثالث لا أكثر. كان في الإمكان تفهّم انتهازيته وميله إلى التفرّد في السلطة لولا أن كلّ ما فعله في السنوات العشر الأخيرة كان سقوطه في فخّ الإخوان بكلّ ما يمثّله من تخلف وبؤس أيضا. لم يعد معروفا الآن هل هو حليف إيران أم روسيا، أم هل يريد العودة إلى الحضن الأميركي؟
كلّ ما يمكن قوله إنّ الفشل لا يجرّ سوى إلى الفشل، خصوصا عندما يغيب عن بال السياسي أن التعاطي بحكمة مع الفشل أهمّ بكثير من التعاطي مع النجاح.