رفعت أصيلة المدينة المغربية الصغيرة الحالمة المقيمة على المحيط الأطلسي التحدي مجددا. كان كل موسم من المواسم الثقافية في أصيلة بمثابة رفع للتحدي نظرا إلى الحاجة إلى التجديد بدل الوقوع في الرتابة.
فعت أصيلة المدينة المغربية الصغيرة الحالمة المقيمة على المحيط الأطلسي التحدي مجددا. رفعته عبر موسمها الثقافي الرقم 41. في الواقع، كان كلّ موسم من المواسم الثقافية في أصيلة بمثابة رفع للتحدي نظرا إلى الحاجة إلى التجديد بدل الوقوع في الرتابة.
لكن التحدي كان هذه المرّة مختلفا بعدما لمّح محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، في ختام الموسم الأربعين في السنة 2018 إلى أن من الوارد أن يكون ذلك الموسم الأخير. عبّر بن عيسى قبل عام عن “تخوّف مشروع”، لكنه أوضح هذه السنة في كلمة افتتح بها الموسم الواحد والأربعين أنّه “لم يتوقّع حجم التعاطف وأشكال الدعم التلقائي والطوعي للاستمرار”، مشيرا على وجه التحديد إلى أنّه كان في طليعة من شجع على استمرار الموسم الملك محمّد السادس الذي “آزرنا وشملنا برعايته السامية، كما ذلّل صعوبات واجهتنا وحفّزنا في سائر المحطّات بطاقة متجدّدة”.
ليس سرّا أن ما كان مدينة صغيرة جدا، بل قرية للصيّادين، كبر كثيرا في موازاة الموسم الثقافي. أمّن الموسم لأصيلة موقعا متميّزا على خريطة المغرب والخريطتين العربية والأفريقية. قال محمّد بن عيسى، وزير الخارجية المغربي السابق ورئيس بلدية أصيلة، واصفا وضعها الراهن “تتوفّر للمدينة الآن هياكل ثقافية أساسية ومنصات مجهّزة للإنتاج والاستهلاك الثقافي، وكلّها تحتضن منذ تشغيلها أنشطة وتظاهرات على مدى السنة”. باختصار، صارت أصيلة مدينة الفن والثقافة في كلّ فصل من فصول السنة.
مرّة أخرى كان الذين حضروا موسم أصيلة هذه السنة، على موعد مع مواضيع جريئة يصعب التطرّق إليها في معظم البلدان العربية باستثناء المغرب. كانت هناك ندوات عدّة عن “عبء الديمقراطية الثقيل: أين الخلاص؟” مع سؤال بديهي عن دور وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات الاجتماعية وتأثيرها على الديمقراطية. كانت مُنية بوستّة، كاتبة الدولة لدى وزير الخارجية والتعاون الدولي المغربي، جريئة في شرح العلاقة بين الديمقراطية والشبكات الاجتماعية، شارحة الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد أن هناك تأثيرا لهذه الشبكات على الديمقراطية.
كان موسم أصيلة مجدّدا منبرا لطرح أفكار طليعية ستكون موضع نقاشات واجتهادات وتفسيرات في المستقبل، بل ستشغل المهتمين بتطور الحياة السياسية في كلّ دولة عربية أو أفريقية. يؤكّد ذلك أن موسم أصيلة بادر في الماضي إلى الذهاب إلى أماكن لم يتجرّأ أحد على الذهاب إليها في المنطقة. في طليعة هذه الأماكن العلاقة بين الدين والسياسة وأزمات المنطقة والمجتمعات العربية والإسلامية عموما. طُرح في إحدى المرات سؤال “هل نكون أو لا نكون” على العرب ككلّ.
في سنّ الـ41، لا يزال موسم أصيلة شابا. يصحّ مرّة أخرى التساؤل ما سرّ أصيلة؟ ما الذي يجعل موسمها يحتفظ بشبابه واندفاعه ورغبته في تجاوز حدود المألوف؟ هل هو المغرب الذي يقال فيه في عهد محمّد السادس ما لا يمكن قوله في معظم بلدان العرب؟ الأكيد أن الأساس هو المغرب الذي لا مكان للممنوعات فيه، والذي يوفّر فضاء للحرية ليس موجودا سوى في البلدان المتقدّمة التي تنتمي بالفعل إلى العالم الحضاري؟
قبل عامين، في العام 2017 وفي افتتاح ندوة “الفكر العربي المعاصر والمسألة الدينية”، كان الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة حريصا على الذهاب في طرح المسألة كما يجب أن تطرح وذلك لحضّ المشاركين على الذهاب بعيدا في عرضهم لأفكارهم. قال محمّد بن عيسى وقتذاك “إنّها لمفارقة تاريخية حقّا أن يستمرّ إعجابنا بمفكري النهضة، في مصر والشام والمغرب العربي، كون هؤلاء توقفوا في مواجهة مشاكل عصرهم بالأدوات المعرفية المتاحة. صاغوها استجابة لمتطلبات مجتمعاتهم في فترات محدّدة، بل تصدّوا بجرأة فكرية نادرة للطابوهات (الأفكار المسبقة الثابتة التي لا تمس) والمواضيع المحرّمة دون شطط فكري أو شعبوية منفّرة”.
كما في كلّ موسم من مواسم أصيلة، هناك احترام للآخر، ذلك أن على المحكّ مستقبل أجيال ومنطقة وصورة الإسلام. لذلك كان لا بد من التذكير بأنّ ما يمرّ به العرب في هذه الأيام، هو استمرار للأزمة العميقة المستعصية التي تعاني منها المنطقة كلّها. لعلّ أحد أفضل العناوين التي تصلح لكل وقت، ذلك المتعلّق بتطوير الثقافة العربية والأفريقية والتفاعل القائم بينهما، مع تركيز خاص على تهذيب الحس الفنّي والذوق لدى الشعوب العربية. ليس صدفة أن أصيلة هي قبل كلّ شيء مكان للفنّ. مكان للوحات على جدران بيض وحفلات موسيقية ومعارض لرسامين مغاربة وعرب وأفارقة.
في السنة 2019، انعكست تراكمات واحد وأربعين عاما من تجربة طليعية على المدينة نفسها التي صار عدد سكانها نحو36 ألف نسمة. ما يلفت نظر زائر أصيلة هذه الأيّام هو التحسن الذي طرأ على كلّ المرافق المرتبطة بالبنية التحتية، خصوصا الواجهة البحرية للمدينة. بدأت هذه الواجهة تأخذ شكل كورنيش طويل طوله ثلاثة كيلومترات يتسع لآلاف الزوار ولكل أنواع النشاطات الترفيهية. بدأت تظهر على طول الواجهة البحرية فنادق فخمة بعد سنوات طويلة من الانتظار. كان استكمال بناء هذه الفنادق توقّف فجأة في العام 2008 بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية. سيكون لأصيلة أيضا ميناء سياحي كبير في المستقبل القريب.
في نهاية المطاف، استطاعت أصيلة أن تساعد نفسها في إيجاد موقع خاص بها في بلد يشهد نهضة حقيقية على كلّ المستويات. استطاعت أصيلة أن تجد لنفسها مكانا على الخريطة المغربية والأفريقية. كان موسمها الثقافي نقطة الانطلاق نحو مستقبل أفضل بعد إقامة البنية التحتية الملائمة، بما في ذلك مجمع للمؤتمرات يحمل اسم الملك الحسن الثاني، رحمه الله، ومكتبة حديثة تحمل اسم الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز الذي تبرّع بسخاء من أجل بناء تلك المكتبة الحديثة.
الأكيد أنّ تطوّر المدينة ارتبط بمحمّد بن عيسى الذي لا يزال محرّك موسم أصيلة. الرجل صاحب رؤية. لم يحد يوما عن ثوابت عدّة وضعها نصب عينيه. من بين هذه الثوابت البعد الأفريقي لموسم أصيلة. هذا البعد الأفريقي لا يزال حاضرا إلى الآن وبقوة مع بعد آخر مرتبط بأميركا الجنوبية. هذا البعد الأفريقي ليس وليد البارحة، بل هو قديم قدم موسم أصيلة الذي كان الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنغور، الشاعر والأديب، أحد أبرز ضيوفه.
ماذا عن الموسم الرقم 42؟ الثابت أن الإعداد له بدأ قبل أن ينتهي الموسم الحالي. الثابت أيضا أن من الصعب التخلي مستقبلا عن موسم أصيلة بعدما صار جزءا لا يتجزّأ من حركة البناء والإعمار والتطوّر التي يشهدها المغرب، وهي حركة إن دلت على شيء، فهي تدلّ على وجود نوع من الحيوية في هذا البلد الذي تحوّل مع الوقت إلى جسر بين أوروبا وأفريقيا، وإلى حصن متين في وجه التطرّف بكلّ أنواعه.