سيقف جاريد كوشنر، صانع «صفقة القرن»، بالثقة الكاملة في مؤتمر البحرين الذي يبدأ أعماله اليوم، ويكشف تفاصيل الخطة الاقتصادية المواكبة للصفقة. وبعد ذلك، سينطلق مسار الإغراء للأطراف العرب الأربعة المعنيين بها:
50 مليار دولار من نصيب الفلسطينيين ومصر والأردن ولبنان لتمويل الخطة على مدى 10 سنوات. وبالطبع، هذه هي المرحلة الأولى. لكنّ المبلغ الإجمالي المخصص لتمويل «الصفقة»، وفق ما رشح أحياناً، يصل إلى حدود 85 مليار دولار من أجل تنفيذ 179 مشروعاً.
في مؤتمر البحرين سيتم الاتفاق على ما أمكَن من مليارات المرحلة الأولى. وستكون حصة الفلسطينيين أكثر من نصف الـ50 ملياراً، فيما الجزء المتبقّي يوزّع على الدول العربية الثلاث المجاورة، ليس بالتساوي طبعاً.
حصة مصر نحو 9 مليارات، لأنّ المطلوب إقامة مشاريع اقتصادية جذّابة جداً في جزء من سيناء يجري ضمّه إلى غزة. وفي المرتبة الثانية، سيأتي الأردن الذي سيحصل على مبالغ تُغريه بالموافقة على إقامة الكونفدرالية مع الفلسطينيين وإقامة مشاريع جذّابة لهم أيضاً. وأمّا لبنان فحصته 6 مليارات، تُرصَد لتنفيذ 5 مشاريع… على مدى الـ10 سنوات طبعاً.
في الأدبيات المتداولة عن صفقة القرن، عند الحديث عن المساعدات المالية، يتم ذكر 3 جهات عربية لا جدال حول موافقتها على المشروع هي: الفلسطينيون ومصر والأردن. ثم يُذكَر لبنان في المرتبة الرابعة مُرفقاً بعبارة «إذا وافق على المشروع». وهذا يعني أنّ لبنان ليس محسوباً كشريك «أصيل» في الصفقة، لأنّ دوره فيها ليس «عضوياً» مثلما هو دور مصر والأردن.
في نظر «أصحاب الصفقة»، ليس مطلوباً من لبنان أن يقدِّم تضحيات بنيوية مقابل موافقته عليها. وبمعنى آخر، إذا لم يتدارك لبنان مشاركته في التسوية كجزء فاعل وشريك، فإنّ الآخرين سيقطفون المكاسب ويتركون له الفتات.
دور لبنان هو دور المتلقّي، أي انه يقتصر على الموافقة على توطين جزء من النازحين الفلسطينيين فيه. وهؤلاء تقدّرهم «الأونروا» بنحو نصف مليون.
لكنّ إدارتي الإحصاء اللبنانية والفلسطينية عمدتا إلى «إراحة الوضع» مسبقاً بالتقرير الذي أصدرتاه قبل سنوات، وفيه تقلَّص العدد إلى 174 ألفاً فقط. وهذا يعني أنّ العدد «الرسمي» المقدَّر توطينه في لبنان «سيذوب» في المجتمع اللبناني من دون إحداث تغييرات بنيوية، لا ديموغرافية كما بالنسبة إلى الأردن، ولا جغرافية كما بالنسبة إلى مصر.
ويتوقع مسؤولون فلسطينيون بارزون أن يجري «جَذب» قسم كبير من النازحين الفلسطينيين المقيمين في لبنان وإخراجهم من جَوّ الفقر والتعاسة في المخيمات وخارجها إلى مناطق الازدهار الموعودة في غزة - سيناء، حيث المشاريع تحتاج إلى عشرات الألوف من الأيدي العاملة. والفلسطينيون لهم الأولوية هناك.
إذاً، وفيما لا يتوقع أصحاب المشروع أن يتم توطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين في لبنان، ما يهزّ كيانه، فإنّ الأردن سيتعرض لتغييرات بنيوية نتيجة الكونفدرالية الأردنية - الفلسطينية التي ستنشأ. وهذا ما سيشكل تغييراً جذرياً في البنية الديموغرافية والجغرافية قد يؤدي إلى تغيير في هوية هذا البلد.
وكذلك، مطلوب من مصر أن تتخلّى ولو بالإيجار، عن جزء من أرضها للفلسطينيين في سيناء. وفي المقابل، ستمنحها إسرائيل مساحة مماثلة في النقب، لئلّا يقال إنّ الحكومة المصرية تنازلت عن جزء من أرضها.
ويتردد أنّ إسرائيل «ستكافئ» مصر أيضاً بالتخلي عن الشروط المتشددة المفروضة على الحضور العسكري المصري في سيناء، تنفيذاً لاتفاق كامب ديفيد. وبهذا تستطيع الحكومة المصرية أن تقول إنها أعادت 99% من سيناء بالكامل إلى السيادة المصرية الحقيقية، مقابل تخلّيها عن 1% من مساحتها للفلسطينيين.
إذاً، في تفكير العاملين على الصفقة، لبنان ليس متضرراً منها. وأعداد النازحين الذين سيحصلون على الجنسية اللبنانية في النهاية لن يكون كبيراً. وفي أي حال، مضى على هؤلاء النازحين عشرات السنين في لبنان، في حالٍ من عدم الاستقرار داخل المخيمات وخارجها. وكانوا سبباً في اهتزاز الاستقرار اللبناني. ومجرد الدخول في تسوية سيؤدي إلى إنهاء الحالة الشاذة في المخيمات وخارجها وعودة السيادة اللبنانية كاملة إليها.
كما أنّ لبنان قادر على الاستفادة من المليارات المرصودة لـ»صفقة القرن»، وهي أساساً مخصصة لتنمية البنى التحتية كالمواصلات وقطاعات الكهرباء والمياه وسواها. وهذه هي المجالات التي سيركّز عليها مؤتمر البحرين. فلو شارك لبنان في هذا المؤتمر لكانت له فرصة في الحصول على الدعم الموعود، بقيمة 6 مليارات من الدولارات.
ولكن، في أي حال، ستكون الأموال التي ستُرصد في مؤتمر البحرين تحت إشراف صندوق دولي تتولّى إدارته مؤسسات دولية، منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجهات المانحة. وتالياً، لن يكون للبنان دورٌ في إدارة الأموال التي سيحصل عليها. وهذا يعني أنّ مشاريع البنى التحتية المقررة للبنان، بـ 6 مليارات دولار، ستنفذها المؤسسات والجهات المانحة.
طبعاً، يأتي ذلك فيما يتعثّر لبنان في تلبية متطلبات مؤتمر «سيدر». فالشروط التي وضعتها الصناديق والجهات الدولية المانحة على لبنان، في مقابل حصوله على مساعدات «سيدر»، لم يتم الالتزام بها إطلاقاً. وعلى العكس، هناك انطباعات متزايدة تؤكدها التقارير الدولية المتلاحقة عن استشراء الفساد اللبناني والفشل المتمادي في إقرار موازنة إصلاحية ومعالجة مشكلة المديونية العامة.
وأساساً، أعلن رعاة «سيدر» أنهم سيشرفون مباشرة على إدارة المساعدات الموعودة للبنان لأنهم لا يثقون في الإدارة اللبنانية. وفي الأشهر المقبلة، سيكون لبنان في مأزق مالي واقتصادي نتيجة فقدان الثقة الدولية بإدارته وتراجع تصنيفه السيادي، ما يجعله في وضعية تلامس الانهيار.
في هذه الحال، سيطلب لبنان دعم المؤسسات المانحة أيّاً تكن، لأنه سيكون بين الحياة والموت. ولأنّ المؤسسات الداعمة والجهات المانحة، العربية والدولية، هي نفسها في «سيدر» وفي البحرين، فعلى الأرجح سيكون لبنان أمام التحدّي: كيف سيتصدى لـ»صفقة القرن» والتوطين، وهو لا يملك القدرة على المواجهة؟ وكيف سيعارض مؤتمراً ترعاه السعودية فيما هو يطلب دعمها ليصمد مالياً واقتصادياً؟
لقد انتهجت الحكومات المتعاقبة، منذ باريس 1 إلى باريس 4، المعروف بـ»سيدر»، سياسة قتل الاقتصاد اللبناني والاتّكال على الدعم الخارجي حتى باتت «الوصاية» الدولية على لبنان خياراً حتمياً، وبات يستحيل على لبنان أن يواجه التوطين وسائر مندرجات «صفقة القرن».
في تلك الفترات، كانت ترتفع أصوات تعترض على الإمعان في الاستدانة من الخارج وزيادة الأثقال على لبنان والاتكال على الاقتصاد الرَيعي، بدلاً من التركيز على تنمية القطاعات الاقتصادية المنتجة. وكان الجواب: التسوية آتية إلى الشرق الأوسط. ولبنان سيقبض ثمنها. وهذه الديون سنمحوها بمجرد حلول التسوية.
يقول البعض: ضمناً، كان التوطين جزءاً من الفكرة. ولذلك، كل التباكي من «صفقة القرن» لا يبدو اليوم سوى مخادعة، وقد لا تكون بريئة، لأنّ الإمعان الواضح في إفقار الدولة وإيصالها إلى الانهيار يتلاءم تماماً مع إمرار «الصفقة».
وعلى الأرجح، جميع المشاركين في الفساد «المتعَمّد» هم جزء من «الصفقة» والتوطين، مهما أصدروا البيانات المعترضة وأطلقوا المواقف الحماسية الفارغة. وعاجلاً أم آجلاً، سيخضع لبنان لشروط «الصفقة» والتوطين. لكنّ الدعم الآتي قد لا يكفي إلّا لسدّ الجزء القليل من حاجات لبنان الكثيرة ليتمكن من العودة إلى الحياة...