واحدة من أبرز المشاكل السياسية في عراق ما بعد العام 2003 هي أن النظام السياسي عجز عن تأسيس دولة المؤسسات، لأن مرتكزات الدولة مفقودة، لهذا يرتبط مصير الرئيس أو المسؤول الحكومي بالعملية السياسية القائمة، ولهذا فلا قيمة تذكر لما يشاع عن استقالة رئيس الحكومة أو عدمها.
يحدثنا التاريخ السياسي الإنساني بأن استقالات الزعماء والرؤساء أو تنحيتهم عن مسؤوليات الحكم دائما ما تكون نتيجة، أو مقدمة، لتغيرات في مفاصل كبرى في حياة الأمم والشعوب. أمثلة كثيرة على ذلك كالذي حصل للإمبراطور نابليون بونابرت حينما استسلم للبريطانيين في معركة واترلو عام 1815، وتم نفيه إلى إحدى المستعمرات البريطانية، ومنذ ذلك التاريخ وإلى حد اليوم توجد قائمة كبيرة من تساقط زعماء ورؤساء جمهوريات كبرى تحت بند الاستقالة أو الإجبار على الاستقالة، ولعل أكثرها تأثيرا استقالة الزعيم ونستون تشرشل عام 1955 الذي تحدى رسالة هتلر خلال الحرب حين خاطبه “إننا لا نريد محاربتك نحن نريد استسلامك”، ولكن تشرشل قاوم حتى النصر وأصبح صاحب الشارة التي خلدته حتى اليوم، أو استقالة الزعيم الفرنسي شارل ديغول عام 1969 أو الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووترغيت عام 1974. وأبرز استقالة في عالمنا العربي قرار تنحي جمال عبدالناصر بعد نكسة الخامس من يونيو 1967 والتي رفضها الشعب المصري بتظاهراته المليونية المشهورة.
مسلسل التنحي الإجباري للحكام العرب بين 2003 و2019 يكشف عن رداءة المناخ السياسي العربي، ويظهر كيف انتهى هؤلاء الحكام مهزومين مستسلمين للإرادة الشعبية. أما في العراق ففي تاريخه السياسي الطويل بعد انهيار الحكم الملكي، لا توجد “استقالة” في دفاتر النظام السياسي قبل عام 2003، فالعساكر حكموا البلاد من دار الإذاعة العراقية عبر بيانات الانقلاب العسكري، ولهذا ظلت هذه البناية مميزة بالحماية الخاصة لخمسين عاما.
أما في أبريل 2003 فقد حصل الانقلاب العسكري الكبير بواسطة الاحتلال الأميركي في مفارقة تاريخية قوامها أنه رفع شعار الديمقراطية وطبق حكمها في البلد مانعا بذلك عهد الانقلابات التقليدية، ومؤسسا لمسرح لعبة التداول السلمي للسلطة بعناوين جديدة وفق الدستور. فالحاكم هو شكل مظهري لحكم الأحزاب الطائفية حتى وإن استبدلت شعاراتها حسب ما تتطلبه مناخات التحكم بالسلطة وعدم السماح بخروجها عن هيمنتها والتي رغم خسارتها رضى الشعب فهي تضاعف من قبضتها عبر منظومات الهيمنة الحكومية أو عبر الميليشيات المسلحة التابعة لها، والتي تعتبر خط الدفاع الأول والأخير أمام الخصوم.
اتفقت تلك الأحزاب على بناء منظومة الحكم البرلماني حيث يكون رئيس مجلس الوزراء الحاكم التنفيذي الأول، أما موقع رئيس الجمهورية فقد صُمم لأن يكون تشريفيا، لكنه اعتمد على مهارة شخص الرئيس وقدراته السياسية وعلاقاته، وهكذا كان حال الراحل جلال الطالباني وأصبح حاليا في ظل برهم صالح.
في العراق رئيس الحكومة لا يستقيل حتى وإن قدم استقالته، لأن الأحزاب الفاشلة هي التي تحكم وهي التي هي عليها الاستقالة عن حكم الناس بعد فشلها الكبير وفي ظل هيمنة تحالف الفاسدين مع السياسيين. هل سمعتم بأن قائدا سياسيا اعترف بالفشل أمام الرأي العام وقدم استقالته من الحكومة قبل أن يقدم رئيس الحكومة سابقا أو حاليا استقالته. ودلائل ذلك ما حصل خلال 12 عاما من حكم حزب الدعوة أن رئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي بالبلاد، وبدلا من الاعتراف بالفشل لم يتم الاكتفاء بولاية أو ولايتين بل كان المطلوب أكثر من ذلك.
الحالة الجديدة حصلت بعد انتخابات 2018 تحت ضغط شعبي عام بضرورة إحداث إصلاح سياسي في منظومة الحكم، لكن هذه الأحزاب ذهبت إلى لعبة اختيار قادة الرئاسات الثلاث من خارج منظوماتها التنظيمية لإبعاد الحرج والحفاظ على الهيمنة من خلال البرلمان، ومع أن الانسجام الشخصي بين الرؤساء جيد ومريح لأصحابها لكنهم كانوا غير قادرين على إحداث التغيير المطلوب، ليس لعدم توفر الإرادة الوطنية ولكن لأن عيون هذه الأحزاب تراقب وتحاسب مثلما يقال، وهي التي أتت بهم وباستطاعتها تنحيتهم، وكل ما قيل عن “الكتلة الأكبر” أصبح من الماضي.
فإذا حاول رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي وهو المالك لملفات الفساد الكبرى ومن بينها حسب التسريبات ملفات استرداد مبالغ هائلة لدى فاسدين كبار مودعة خارج العراق وتقدم خطوة على طريق الكشف والمحاسبة، فإن الألغام تكشف عن نفسها من بين الرمال الساخنة، ثم تشتغل الجيوش الإلكترونية ضده، وتسريب أخبار الاستقالة جعله مضطرا إلى الإعلان عن عدم صحتها وسيستمر إلا إذا رغب البرلمان عكس ذلك، أي الكتلتان الشيعيتان “سائرون والفتح”، وقرار الإزاحة سيتخذ حين تقترب لحظة الخطر في كشف ملفات الفساد الكبرى.
رئيس الوزراء في العراق يعلم أن لا رصيد حزبيا برلمانيا يسانده، والجميع من خارج الأحزاب يشتغل لمصالحه الذاتية، ولهذا طبيعي جدا أن يعيش حالة الإحباط والتردد في دخول مغامرة كشف الملفات الكبرى، من هنا يلجأ إلى أساليب التعميم رغم أن الشعب ينتظر من يقدح شرارة النار على الفساد ليدعمه، وهذا حال وزير خارجيته الذي يعتقد بأن مهنيته تسمح له بإجراء إصلاح إداري ومهني لإنقاذ الدبلوماسية العراقية، ثم تصوب ضده خلال أشهر قليلة سهام التلويح بالاستجوابات، وهي واحدة من ألاعيب الضغط والاستسلام.
نفس الحالة يواجهها رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، الذي يعتقد بأن مسؤولياته الوطنية تتطلب منه أن يساهم في إعادة البلد إلى حالة تتناسب مع موقعه العربي والإقليمي والدولي، لكن عليه حساب تحركاته بدقة لأن السيوف جاهزة ضده ومن داخل القوى السياسية السنية التي تعتقد بفضلها عليه بترشيحه.
رئيس العراق برهم صالح هو الوحيد من بين الثلاثة الذي يتمتع بقدر من الحرية من الضغوط، وذلك بالإيفاء بوظيفته كحام للدستور وبالاعتماد على ذكائه وحنكته في العلاقات العامة، وإضفاء الصورة الوردية على البلاد.
إرضاء رئيس الوزراء للأحزاب الكبيرة يعني الدوران في الحلقة المفرغة منذ 16 عاما، هذه الأحزاب لديها خصومة مع الشعب ولا تريد له الخير، وتخشى أن الاقتراب من حافات فضح الفاسدين سيسقطها وهي معادلة صعبة، ومشروع “الاستقالة” حتى وإن راود رئيس الوزراء فهو مشروع خاسر، ولهذا فإن طريق الصمود وتحقيق التغيير بشجاعة هو الخيار الوحيد أمامه لصالح شعب العراق.