توقيتٌ ذكيٌّ أن تُسقِطَ إيران طائرةً أميركيّةً مسيَّرةً غَداةَ إطلاقِ الرئيس ترامب حملتَه الانتخابيّة لولايةٍ رئاسيّةٍ ثانية. وتوقيتٌ غبيٌّ أن يَمنعَ الكونغرس الأميركيُّ بيعَ أسلحةٍ إلى المملكةِ العربيّةِ السعوديّة لحظةَ كان الرئيسُ الأميركيُّ يَمنعُ ضربةً على إيران. مَن الحليفُ ومَن الخصمُ؟! وحركةٌ لافِتةٌ أن يَتحوّلَ حلفاءُ أميركا، بريطانيا وفرنسا واليابان، وسطاءَ بينها وبين إيران.
وظاهرةٌ غريبةٌ أن تَتصرَّفَ كالحُمْلان إدارةٌ أميركيّةٌ تَصِفَ نفسَها بـمُلتقى الصُقور. وتبريرٌ سخيفٌ أن يَتذرّعَ ترامب بأنَّ طائرةً من دونِ طيّارٍ لا تَستحِقُّ ردًّا عسكريًّا، فالاعتداءُ، يا سيّدي الرئيس، ليس على الطائرةِ بقدرِ ما هو على الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّةِ بعظمتِها وجبروتِها وأساطيلِها وجيشِها وهيبتِها.
أَلَــم تُصرِّح في بدايةِ حزيران، أنتَ وبومبيو وبولتون، بـــ«أنّنا سنَردُّ بقوّةٍ هائلةٍ على أيِّ اعتداءٍ إيرانيٍّ على قوّاتِنا ومصالِحنا أو حتى على حلفائِنا»؟
لكن ما «يَشفَعُ» بترامب هو أنه منذ سنةِ 1946 تَـمَّ إسقاطُ أربعينَ طائرةً أميركيّةً مُسيَّرةً وقُتلَ نتيجتَها مئةُ ضابطٍ وجنديٍّ من دونِ أن تَردَّ واشنطن على أيِّ حادثٍ منها أو على الجِهةِ التي ارتَكبتْه (نقلًا عن جون هوبكِنز مؤرخِّ الطيرانِ الأميركي).
لسنا دعاةَ حروبٍ لا على إيران ولا على غيرِها، لكن كان يُفترضُ بالرئيس ترامب أن يُدركَ، منذ البداية، أنَّ اللعِبَ مع إيران مُكلِفٌ. هذه بلادُ فارس: آريّةً كانت أو مِيديّةً، زرادَشْتيّةً أو أخْمينيّةً، ساسانيّةً أو صَفَويّةً، بَـهْلويّةً أو خُمينيّة. هذه بلاد «قورش» الذي حَرّر اليهودَ من سَبيِ بابل وأعادَهم يَبنون هيكلَ سليمان. هذه بلادُ «أَرْتَـحْشَشْتا» الذي أَحْرق أثينا. هذه بلادُ «دارا الأول» الذي بَلغَ الهند وليبيا. هذه بلادٌ أقامَت الهلالَ الفارسيَّ في المشرِقِ المتوسِّطيِّ قبل أن تُــؤَسْلِمَ في معركتَي القادسيّةِ (636) ونَهاوَنْد (642).
كان على الرئيس ترامب التَحسُّبُ للتداعياتِ والاستعدادُ للحربِ قبل الانسحابِ من الاتّفاقِ النوويِّ وفرضِ العقوباتِ لئلا يَخسَرَ هيبَته. إيرانُ لا «تُطنِّشْ». الشخصيّةُ الفارسيّةُ هي شخصيّةٌ قتاليّةٌ منذ قديمِ الزمان، بينما الشخصيّةُ الأميركيّةُ هي شخصيّةٌ تنافسيّة فقط. ترامب رجلُ وعيدٍ فيما القيادةُ الإيرانيّةُ قيادةُ حرب. إيران تُغازِلُ المواجهاتِ ما دام عَدوُّها يَهرُبُ منها، وأميركا تَتحاشى المواجهاتِ ما دام عَدوُّها يَتقدَّمُ منها. غالِبيّةُ الحروبِ التي خاضَتها أميركا تَورّطَت فيها لإنقاذِ حلفاءَ (الحربان العالميّتان الأولى والثانية)، أو ردًّا على تحدٍّ كبيرٍ (أفغانستان والعراق). وغالبًا ما كان أخصامُها يَقطُفون ثمارَ حروبِها على حسابِ حلفائِها (الاتحادُ السوفياتيّ، كوبا، فيتنام، إيران، طالبان، إلخ...). وأصلًا، ما بَسطَت إيران سَجَّادتَها على أرضِ المشرِقِ إلا في أعقابِ الحروبِ الأميركيّةِ الفاشِلة.
إذا كانت إدارةُ ترامب لا تريد الحربَ مع إيران فعلًا، يُفترَضُ بها أن تَستخدِمَ سلاحَ الديبلوماسيّةِ من جهةٍ وسلاحَ الضغطِ من جِهةٍ أخرى (عقوباتٌ، حصارٌ، إلخ...). فاستخدامُ سلاحٍ دون الآخَر قد يؤدّي إلى حربٍ بسببِ الإفراطِ في الاستقواءِ أو الإفراطِ في الاستضعاف. يَعتقدُ ترامب أنّه يُمارسُ على إيران «ديبلوماسيّةَ الإكراه» لكنّه عمليًّا يُمارس الإكراهَ من دونِ ديبلوماسيّة. ويَهدِفُ إلى وضعِ طهران أمام خِيارِ الخضوعِ أو الانفجارِ. لكنَّ إيران قَرّرت كسرَ حالةِ الحصارِ والتَحكُّمَ بمَلفِّ المفاوضاتِ واستعادةَ المبادرةِ الأمنيّةِ. فعلى العقوباتِ الاقتصاديّةِ تَرُدُّ بالتحرُّشاتِ العسكريّة، وعلى تجويعِ شعبِها تَرُدُّ بإذلالِ الإدارةِ الأميركية.
غير أنَّ الأحداثَ الاستفزازيّةَ في البحرِ والجوِّ في مِنطقةِ مضيقِ هُرمز قد تـَجُرُّ الطرفين إلى مواجهةٍ ما. التاريخُ، القديمُ والحديثُ، مَليٌ بأزَماتٍ مكبوتةٍ تحوّلَت حروبًا بغَفلَةٍ من القرارِ السياسيِّ أو بسببِ سوءِ تقديرِ أحدِ الطرفَين أو بسببِ تَدخّلِ طرفٍ ثالث. وأصبحَ مشروعًا، بالتالي، السؤالُ: هل يؤدّي إسقاطُ طائرةٍ من دون طيّارٍ إلى حربٍ من دون قرارٍ أم إلى استدارةِ إيران فتَجلِسُ، من موقِعِ قوّةٍ، إلى طاولةِ المفاوضاتِ حاملةً حُطامَ الطائرةِ المسيَّرة فيجعلُها ترامب «أسعدَ دولةٍ في العالم»؟ وماذا عن حلفائِك العربِ، مستر ترامب؟
تُقاربُ أميركا قضايا العالمِ بذِهنيّةِ إدارةِ المشاكلِ وتأخيرِ الحروبِ لا بذِهنيّةِ حلِّ المشاكلِ ونزعِ أسبابِ الحروبِ لأنّها تَختزِن فائضَ قوّةٍ يَسمَح لها بامتِصاصِ الأزَماتِ والنكساتِ العابرةِ كإسقاطِ الطائرةِ أخيرًا. لكنَّ الشعوبَ الصغيرةَ والدولَ الإقليميّةَ تريدُ حلَّ مشاكلِها حربًا أو سلمًا. وهكذا، يُولد التباينُ بين أميركا وحلفائِها الإقليميّين.
في هذا الوقت، يعاني الرئيس دونالد ترامب من فوضى فكريّةٍ عارمة. قوّتُه صارت مصدرَ ضعفِه: فهو ممزَّقٌ بين الردِّ فورًا وانتظارِ وصولِ عشرةَ آلافِ جنديٍّ إضافيٍّ إلى المِنطقة. بين استعادةِ كرامةِ أميركا وتجديدِ انتخابِه مرّةً ثانية. بين قرارِ العودةِ العسكريّةِ إلى الشرقِ الأوسط والتفرّغِ الاقتصاديِّ والاستراتيجيِّ لمواجهةِ الصين وروسيا. بين تحجيمِ إيران والحفاظِ عليها عنصرَ توازنٍ لابتزازِ دولِ الخليج. وبين حربٍ في المنطقةِ وتوفيرِ ظروفٍ سلميّةٍ لصفقةِ القرنِ ومؤتمرِ البحرين. وهو يَخشى أن يقومَ بردٍّ عِقابيٍّ على غرارِ قصفِ مطار الشُعَيْرات في سوريا (نيسان 2017) فيَتحوّلَ الردُّ المحدودُ حربًا مفتوحة، فإيران ليست سوريا. الكرامةُ الفارسيّةُ فوقَ كلِّ اعتبار.
ما يساعدُ ترامب في موقفِه الحاليِّ أنَّ قاعدتَه الانتخابيّةَ، والحزبَين الجُمهوريَّ والديمقراطيَّ، وحلفاءَه الأوروبيّين والآسيويّين والعربَ، كلُّهم يَتمنَّون عليه عدمَ القيامِ بردٍّ عسكريٍّ غيرِ محسوبِ النتائجِ على إيران. لكنَّ الأرجحَ أنْ تأخذَ التطوّراتُ مَنحىً جديدًا: إما المفاوضاتُ تبدأُ وإمّا الوضعُ يَتدهّورُ عسكريًّا، فطهران غيرُ قادرةٍ على تَحمّلِ العقوباتِ الأميركيّةِ المتصاعِدةِ طويلًا، وأميركا غيرُ قادرةٍ على السكوتِ عن الاعتداءاتِ الإيرانيّة إلى ما لانهاية.