نعلم جميعاً أنّنا نمرُّ بواقعٍ غير مسبوقٍ؛ نختصره بأنّه الواقع الذي تُخرج فيه المجتمعاتُ البشريّة كُلَّ ما فيها من أفكارٍ وأساليب واتّجاهات وسلوكيّات، كمّاً ونوعاً، وقد باتَ ذلك النتاج عصيّاً على الحصر والضبط، ولا سيّما مع انتشار وسائل الاتّصال الحديثة والمتطوّرة والذكيّة، حتّى بات الفردُ الواحدُ قناةً تبثُّ مباشرةً على الهواء حتّى من الغُرف المغلقة، والكهوف المظلمة.
ثمّة مظاهر عديدة ساعدت في تعميق الأزمة؛ قد يكون من أهمّها:
1) ضعف تأثير المؤسّسات الدينية المركزيّة والكبرى، وذلك بسبب عوامل عديدة، ربّما كان من أهمّها عدم انخراط تلك المركزيّات في تطوير نفسها، أو خطابها الديني، لمواكبة المجتمعات المتغيّرة بوتيرة سريعة، بحيث لم تعد الوسائل التقليدية قادرة على الإجابة على أسئلتها المطّردة، وإشكالاتها المتنامية حتّى في ما خصَّ الدين نفسه. وربّما يكمن الخطر بالنسبة لهذه النقطة، أنّ كثيراً من هذه المؤسّسات الدينية لا يزال غير واع لوجود مثل هذه الفجوة، وبالمستوى المطلوب.
2) إضعاف المركزيّات السياسيّة في عدد من الدول العربيّة التي تحرّكت فيها الشعوب مُطالبةً بحرّياتها وبتطوير نظامها السياسي، حيث دخلت جهات سياسيّة إقليمية ودوليّة على خطّها بهدف حرفها عن مسارها. وربّما يكون أحد أهمّ العوامل المساعدة على زيادة الضعف، هو الطفرة في الانتقال من الاستبداد المطبق ـ بما يختزنه من ثقافة مأزومة ومنغلقة ـ إلى الحرّية المنفلتة مدعومة بكلّ وسائل الاتّصال والتواصل الحديثة.
3) الجماعات المأزومة في نشأتها وتربيتها وأساليبها، والتي يُطلق عليها الجماعات التكفيريّة، والتي أتاحت لها وسائل الاتّصال الحديثة القدرة على التواصل والوصول إلى داخل البيوت، والتأثير على العقول الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء. ويمكن أن نلمح لدى هذه الجماعات سطحية في الفكر والمعايير المقاربة للواقع، وانغلاقاً في الظروف المجتمعيّة عموماً، وتوسّل هذه الجماعات المحافظةَ على ذاتها عبر ممارسة الإلغائيّة والإقصائيّة ضدّ الآخر (بالخطاب العنفي نفسه، أو بممارسة العنف وصولاً إلى القتل وسفك الدم)؛ كما أنّ الجماعة التكفيرية تمثّل وحدةً إيمانيّة، وبالتالي لا يقتصر تكفيرها على المختلف دينيّاً، بل يطالُ حتّى المتّفق مذهبيّاً.
4) ضمور الإحساس الجامع، والمتمثّل بالقضايا الكُبرى المشتركة التي تهمّ المنطقة، أو شعوبها، أو الأمّة؛ حتّى تمّ التنازع في شأن العدوّ الخارجي، وإذا كنّا لا نزال غير قادرين على تفعيل نقاط وحدتنا الذاتيّة، فضمور الإحساس بالقضايا الكُبرى يُفقدنا الوحدة عبر فكرة العدوّ المشترك الخارجيّ. ومن الطبيعي عندئذٍ أن يكون البديل هو تقلّص صورة العدوّ إلى حدود المحلّة والقرية وحتّى العائلة والجوار، فضلاً عن البلدِ والكيان السياسي الجامع.
دورُنا هو أن تعمل على تجذير نوعٍ من الثقافة، تبقى ـ ولو كامنةً ـ في الوجدان الشعبي، لتعطي الحياة عندما تتبدّل الظروف والأوضاع، ويأتي جيلٌ يُمكنه أن يحمل رسالتها.
وربّما يكون من المفيد لنا إثارة التفكير في نقاط عدّة:
أوّلاً: التركيز على النقاط المشتركة التي تهمّ المسلمين والمسيحيّين بعيداً عن سياسة تسجيل النقاط، وإدارة الحوار حولها في الأطر التي تملك مساحةً أكبر من الحرّية قياساً بالأطر الرسميّة الدينية أو السياسيّة، وذلك بهدف تشكيل ثقافة مشتركة، يُمكن إنزالها إلى الأرض عبر التثقيف الديني المتوجّه للرعيّة والشرائح الشعبيّة بشكل خاصّ.
ثانياً: الإصرار على إخراج أصحاب الفكر التكفيري، إلى أيّ دينٍ انتموا، إلى الهواء الطلق، وهذا يتطلّب إقامة الحوارات المتنوّعة حول مواضيع ذات اهتمام مشترك، ولو نسبيّاً؛ والهدف من ذلك أن تحتكّ تلك الجماعات بالآخر الحقيقي، لا بالآخر المتصوّر والمتخيّل الذي أمّنته له ثقافته التكفيريّة. وهذا يجعلنا نؤكّد على الحوار الإسلامي ـ الإسلامي من دون استبعاد أحدٍ، وعلى الحوار الإسلامي المسيحي كذلك.
ثالثاً: استثمار مبادئ التسامح والرحمة وغيرها في المسيحيّة والإسلام، في سبيل التخفيف من حدّة الحالة الإلغائيّة التي يُراد جعلُها مناخ العصر كلّه.
رابعاً: الحفاظ على الكيانات السياسيّة الحاليّة بكلّ عناصر قوّتها ضدّ مشاريع التقسيم والتفتيت، عبر إشاعة ثقافة المواطنة، حتّى لو شابتها بعضُ الشوائب التي يُمكن تأجيلها، لأنّ الهدف هو مقاومة تلك المشاريع التقسيميّة والتفتيتيّة، حتّى لا نتراجع إلى قبائل متناحرة، باسم الدين والطائفة والمذهب.
خامساً: ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص في التعبير عن الكفاءات وذلك في إطار الوطن، وإحلاله مكان ثقافة المحاصصة الطائفيّة؛ لأنّ السارق والمرتشي والمرتهن لا دين له ولا مذهب ولا طائفة، وإنّما هو مستغلٌّ للدين لتحقيق أطماعه وجشعه وأنانيّته، وذلك بعيدٌ كلّ البعد عن قيم السماء في كلّ الأديان. وبذلك لا يتسلم زمام إدارة العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة، أو يؤثّر عليها، الذين لا يحملون قيم الإسلام والمسيحيّة، والذين يعمدون ـ عادة ـ إلى منطق اللعب على التناقضات ليحافظوا على امتيازاتهم الضيّقة ومنافعهم الشخصيّة.
سادساً: عدم نقل أيّ مواجهة إعلاميّة أو ثقافيّة من مواجهة منطق التكفير إلى مواجهة الإسلام؛ لأنّ هذا قد يستفزّ المشاعر الشعبيّة، التي غالباً ما تتحرّك على السطح، وسيُحرج القوى العقلانيّة والمعتدلة، ممّا بتنا نراه على شكل مزايدات جهات موصوفة بالعقلانيّة على الخطاب التكفيري لكسب رضى الشارع الذي يُراد له أن يبقى غرائزيّاً في تفاعله مع القضايا المُثارة من حوله.
سابعاً: التأكيد على الوجهة العقلانيّة للدين؛ بل على التطابق بين حركة الدين (القيم والشريعة) وبين حركة الكون (نظام الخلق)؛ لأنّ الكلّ من عند الله، وهذا الإصرار على عقلانيّة الدين هو الذي يضيّق المساحة على أيّ اتجاه غير عقلاني يفصل بين الدين وبين العقل، فيفقد بالتالي أدنى مستوى من المعايير القيمية. ولهذه الوجهة دورٌ فعّال في تخفيف العصبيّة؛ لأنّ هناك تناسباً عكسياً بين العقلانيّة والعصبيّة، فكلّما ارتفعت الأولى انخفض منسوب الثانية، وارتفاع الثانية دليل على انخفاض الأولى.
ثامناً: تأكيد الخطاب الديني والثقافي المسيحي على القيم التي لا تجعل المؤمن المسيحي بعيداً عن قضايا المنطقة الكُبرى، وفي مقدّمتها القضيّة المركزيّة، وهي فلسطين؛ نقطة الارتكاز في التاريخ الإيماني الإسلامي والمسيحي على حدٍّ سواء.
أخيراً: التلاقي العمليّ المشترك على مستوى المركزيّات الدينية المؤثّرة، وتحديداً الفاتيكان والأزهر والنجف وقم وغيرها، في سبيل إشاعة الأجواء الانفتاحيّة العالميّة، والتي من شأنها أن تقاوم المشاريع الشيطانيّة تجاه المنطقة. ومع أنّ ثمّة عقبات تعوق الطريق إلى ذلك؛ إلا أنّ لهذه النقطة أثراً كبيراً، ليس على المستوى النفسي فحسب، بل على مستوى انفتاح النتاج المعرفي الديني والمذهبي، في مقابل الانغلاق الفكري الذي انغلقت فيه كلّ جماعةٍ دينيّة على معارفها ومناهجها، وهذا ـ في حدّ ذاته ـ اختزالٌ لمنطق العلم نفسه الذي يأبى إلا الانفتاح على كلّ فكرةٍ بغضّ النظر عن المجال الذي أنتجت فيه.

مداخلة ألقيت في اجتماع الرابطة الكهنوتية في إكليريكية مار أغسطينوس في كفرا (عين سعادة - لبنان)