لن تحضر السلطة الفلسطينية ورشة البحرين. ولن تحضر بالمقابل إسرائيل. لن يوجه البيت الأبيض الدعوة لها “حتى لا تُقْحَم السياسة كثيراً” في ما هو مالي اقتصادي تقني، وفق البيت الأبيض.
بهذا التبسيط الذي يكاد يكون ساذجاً، إذا لم نقل غبياً، تقارب الإدارة الأميركية ملفا هو من أكثر الملفات تعقيداً في الشرق الأوسط.
“صفقة القرن” التي تَعِدُ بها الولايات المتحدة تشبه الكيفية التي ينظر بها دونالد ترامب إلى الأمور في هذه الدنيا. سبق للرئيس الأميركي، ومنذ أن كان مرشحاً، أن استغرب باندهاش كيف لم يتم حلّ هذه القضية حتى الآن، فكل شيء قابل للحل، وفق تعبيره.
قد يقال إن رجل الأعمال، أي رجل أعمال، يرى أن كل شيء يُشترى، ولكل شيء ثمن، والمال كفيل بغلق الملفات وإبرام الصفقات وتذويب أي عقبات تحول دون ذلك. فكيف يرى سيد البيت الأبيض الأمر؟
دونالد ترامب تاجر عقارات. زوج ابنته أيضا. يجتمع الرئيس وصهره، جاريد كوشنر، على أن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ليس حضاريا، ليس سياسيا، ليس تاريخيا، ليس ثقافياً، ليس وجوديا.
النزاع في عُرف الصهر وعمِّه هو مجرد نزاع عقاري يتم التعامل معه كما التعامل مع قضايا العقارات التي يشتغلان بها.
على هذا لا تخفي واشنطن، برئيسها وصهر رئيسها ومبعوث رئيسها إلى الشرق الأوسط، أن ورشة البحرين هي اجتماع عمل بين رجال المال والأعمال يناقشون داخله بالأرقام الكيفية الواجب اعتمادها لـ”شراء” صفقة تأخر الإعلان عنها.
النقاش يدور حول مشروع عقاري ضخم يحتاج إلى إرضاء السكان وتعويض المستأجرين وإقناع المالكين بالبيع، وإغراء أهل الأحياء بجمال التطوير العقاري العملاق المقبل وحسن تداعياته على يومياتهم، كما على مستقبل حضورهم داخل ذلك المشروع الطموح.
يخبرنا جيسون غرينبلات، مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، أن الورشة في البحرين هي مؤتمر اقتصادي، وهي الجزء الأول من خطة السلام الأميركية العتيدة التي ما زالت واشنطن عاجزة عن البوح بها.
حتى الآن يتحدث الأميركيون عن صفقة لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ما زالوا في بياناتهم وتصريحاتهم الممهدة للصفقة الموعودة يتكلمون عن فلسطينيين.
ومع ذلك ترى واشنطن أن إعراض هؤلاء الفلسطينيين عن حضور مناسبة يُفترض أنها تناقش مصيرهم ليس مهماً، لا بل هو تفصيل هامشي سيجد بارونات الأعمال له حلاً داخل صفقتهم.
ثم إن غياب فلسطين عن ورشة البحرين، وفق عباقرة هذه الصفقة، ليس أمرا معاندا لها، بل هي قاعدة من قواعدها، منذ أن أقفلت إدارة ترامب مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن (10 سبتمبر الماضي)، ومنذ أن اتخذت القيادة الفلسطينية قبل ذلك قراراً- يدور جدل حول نجاعته- قضى بسحب السفير الفلسطيني من واشنطن، وقطع أي تواصل مع الولايات المتحدة وموفديها إلى المنطقة احتجاجا على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل (مايو 2018).
ستنعقد الورشة في البحرين (25 - 26 من الشهر الجاري). سيحضر الورشة عرب وغير عرب. سيدور الجدل حول من حضر ومن غاب وظروف الحضور وظروف الغياب. سينشغل الإعلام بالحدث وتفاصيله، وسينصرف الإعلام عنه بعد انتهائه. ولن تكون الورشة إلا تفصيلاً داخل أجندة إدارة ترامب يضاف فوق خريطة تتراكم خطوطها داخل حملته الرئاسية المقبلة.
تحتاج الحملة لإنجاز هنا وهناك. شيء من ذلك في ملف إيران، وآخر في ملف السجال مع الصين، وآخر في ملف الحرب التجارية مع أوروبا، وآخر في ملف الجدل مع تركيا، وآخر في ملف ما تحقق في الداخل. وعليه فإن تطوراً ما، ولو إعلاميا، داخل ملف “صفقة القرن” يحمل ماء، ولو شحيحاً، إلى طاحونة الرئيس المرشح.
واشنطن تسمي الحدث “ورشة السلام من أجل الازدهار” (لاحظ بلادة العنوان الذي يليق اسما لفيلم هندي). تجاهر بأن لا مضامين سياسية له. وهو في تركيبة حضوره وطبيعة شخوصه يكاد يكون أقل أهمية من مؤتمر دافوس وأمثاله في العالم. لا صفة مقررة للورشة. لا تحظى بأي شرعية دولية، ولا تحظى بأي تغطية أممية توفرها مظلات الأمم المتحدة. والورشة “ليست بداية التاريخ ولا نهايته”، على حد تعبير أيمن الصفدي وزير الخارجية الأردني. فلماذا كل هذا الصخب حول حدث لا يقارن بمؤتمرات ومفاصل واستحقاقات دولية كبرى شهدتها القضية الفلسطينية خلال العقود الأخيرة؟
لسنا على وشك تحرير فلسطين وتأتي “الورشة” لتُجهض ذلك. الحضور العربي وفق ما تسرّب حتى الآن (الأردن، المغرب، مصر ودول خليجية أخرى) يأتي مستمعاً مطّلعا على ما يدور وما يحاك. لا يحمل هذا الحضور أي صفة تمثل العرب جميعا أو تمثل الفلسطينيين طبعا. الحضور لا يعني التهليل للصفقة- الإشاعة حتى الآن، والغياب لا يعني تبديد تلك الإشاعة ودحر آثامها.
والغضب من عقد الورشة يعطي للحدث أبعاداً طموحة، خصوصا أن الغياب الفلسطيني يفرّغ أي كلام عن فلسطين من أي مضمون. وهنا الرأي أميركي بامتياز.
يدلي غرينبلات بدلوه. يقول إنه “منذ أن اختارت السلطة الفلسطينية مقاطعة القمة، فلن تتم دعوة مسؤولي الحكومة الإسرائيلية أيضا، ولن تتم دعوة قادة العالم الآخرين أو وزراء خارجية من دول أخرى”.
يضيف “بدون وجود السلطة الفلسطينية في المؤتمر، فإن وجود الحكومة الإسرائيلية هناك يجعله أكثر سياسية، حيث سيتم تمثيل رجال الأعمال الإسرائيليين هناك”.
تعترف واشنطن، حتى بنسخة إدارة ترامب، أن لا كلام في السياسة عن فلسطين دون فلسطين. لكن بالمقابل هل يجوز أن يقابل الفلسطينيون الحديث عن فلسطين بالحرد؟
لم يعترف العالم بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني منّة أو كرم أخلاق. الأمر انتزع بقوة الحجة والحضور ونتاج نضالات حقيقية. دفع الفلسطينيون دما من أجل إجبار العالم على الاعتراف بفلسطين والفلسطينيين وبالتمثيل السياسي الذي يريدونه. فكيف يتم تبديد المُنجز والاستخفاف بما تحقق من خلال سياسة عزلة وحرد لا نفع منها.
ثم السؤال الآخر. ما الحكمة من مقاطعة واشنطن و”معاقبة” الولايات المتحدة على موقف هو من صميم سياسة هذه الدولة المجاهرة بدعم إسرائيل والانحياز إليها. أي جديد في الأمر؟ وما الذي تجلبه تلك المقاطعة من ثمار لإنقاذ القدس وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ثم إذا كانت السلطة وحماس في خندق واحد ضد الصفقة وورشاتها، فما مسوّغ بقاء الخلاف بينهما؟
لا يهم أن يعتبر غرينبلات أن الفلسطينيين أضاعوا فرصة جديدة في البحرين، فذلك خطاب أميركي مستهلك يسعى للاستمرار في تسويقه تبريرا لركاكة الصفقة وارتباك معالمها. لكن قيادة السلطة تضيّع من جديد فرصا لمواجهة أي مشاريع طارئة لا تتسق مع طموحات الفلسطينيين داخل الميادين التي تتحرك واشنطن داخلها.
99 بالمئة من أوراق الحل في يد الولايات المتحدة. هكذا استنتج الرئيس المصري الراحل أنور السادات قبل عقود. لم يتغير شيء. الحل ليس في يد الرباعية الدولية، ليس في يد الأوروبيين، وطبعا ليس في يد الصين وروسيا اللتين تطوران علاقاتهما مع إسرائيل على نحو فائض الفجاجة والوقاحة.
ولئن تلجأ واشنطن هذه الأيام إلى حل حسابي لصراع تتداخل فيه عوامل الجغرافيا والتاريخ وعبق الثقافة والأديان، فذلك أن الولايات المتحدة التي عجزت عن الاهتداء إلى حلّ في عهد الإدارات السابقة، وصلت إلى قاع الإفلاس في هذا الصدد تحت سقف ترامب وصهره. وسواء أطلت واشنطن من منبر البحرين أو من أي جغرافيا أخرى، فحريّ بفلسطين أن تكون حاضرة وأن لا تغيب عن المنابر، وخصوصاً تلك التي يطل منها الأميركيون لتجديد عقد رئيسهم في البيت الأبيض.