عندما طُرحت المبادرة الروسية لإعادة النازحين السوريين قبل نحو سنة من الآن، اصطدمت بعدم وجود مؤشرات إيجابية حيالها من قِبل الولايات المتحدة الاميركية، وهذا الأمر شكّل العنصر الأساس في خفض سقف التوقعات تجاهها.
 

منذ أن نطق الروس بها، خضعت هذه المبادرة، ولا تزال تخضع حتى الآن، لمقاربات مختلفة:

- ثمة من قاربها بوصفها مجرّد محاولة لإحداث اختراق، سعت من خلاله موسكو إلى فتح طريق في ملف النازحين، نحو تحقيق إنجاز سياسي يواكب الإنجازات العسكرية التي حققتها على الجبهات السورية.

- وثمة من اعتبر انّها وُلدت اساساً في حقل الغام معقّدة، ونجاحها رهن بمجموعة عراقيل، او بالأحرى رهن بتسويات كبرى تتجاوز الميدان السوري. ولعلّ أبرز تلك العراقيل:

أولاً، غياب الضوء الأخضر الإقليمي والدولي للمبادرة. فملف النازجين السوريين نفسه، يشكّل واحداً من عناصر صراع المصالح بين الدول الكبرى، لاسيما تلك المُؤثّرة في مُجريات الحرب السُوريّة. فالموقف الأميركي - وامتداداً له الموقف الأوروبي - واضح في تركيزه على «مأساة» النازحين، أداةً للضغط على الرئيس السوري بشار الأسد، لا بل يمكن القول إنّ هذا الملف، الى جانب ملف العقوبات، بات السلاح الأخير للقوى الغربية للتأثير في الأزمة السورية.

ثانياً، غياب الدعم الاقتصادي الدولي لعودة النازحين. فالتقديرات الاقتصادية تشير الى انّ حجم الدمار السوري تبلغ خسائره ما بين 120 و 150 مليار دولار، يُضاف الى ذلك، التراجع المريع للاقتصاد السوري، وهو امر يؤثر بشكل حاد على أيّة خطط لعودة النازحين.

ثالثاً، الوضع الداخلي في لبنان، حيث يغيب التوافق السياسي حول مقاربة ملف النازحين، وهو ما بدأ في ثنائية المعالجة في الحكومة السابقة بين وزارة الخارجية ووزارة شؤون النازحين، وهو مستمر حتى اليوم. إذ بات جزءاً من الاشتباك السياسي القائم على مستويات عدّة ضمن السلطة الحاكمة، وباتت أوجهه متشعّبة، وإن كان العنصر الأساس فيه، الخلاف الحاد بين معسكر رئيس الحكومة سعد الحريري، المدعوم من قِبل قوى سياسية أخرى مثل «القوات اللبنانيّة» و»الحزب التقدمي الإشتراكي»، وبين معسكر «التيّار الوطني الحُرّ»، المدعوم من قِبل «حزب الله»، وحركة «امل»، بشأن التنسيق والحوار المباشر مع النظام في سوريا حول قضية العودة.

برغم ما تقدّم، فإنّ المبادرة الروسية تبقى الإطار النظري الوحيد الذي يمكن التحرّك من خلاله، بالنظر الى غياب أيّ مبادرات أخرى، وهو ما أكّده الحريري قبيل تشكيل حكومته الحالية، التي أدرجت المبادرة الروسية ضمن بيانها الوزاري.

ومن هنا، فإنّ التحرّك الروسي الأخير باتجاه لبنان يأتي للتأكيد على أنّ المبادرة الروسية ما زالت قائمة - وهو ما قاله المبعوث الرئاسي في أكثر من لقاء مع المسؤولين اللبنانيين - ولكنّها تبقى ضمن حدود العمل التراكمي، الذي يقتضي الذهاب نحو خطوات أكثر عملية، من قبيل دعوة لبنان والعراق إلى المشاركة في «اجتماعات استانا»، ولو بصفقة مراقبين.

بهذا المعنى، يمكن ان تكون المشاركة اللبنانية والعراقية في أستانا خطوة ذات منفعة مشتركة لروسيا من جهة، ولدول الجوار السوري المعنية بموضوع النازحين، وعلى رأسها لبنان.

بالنسبة إلى روسيا، فإنّ أيّة خطوة إلى الأمام، وإن كانت صغيرة، تشكّل عامل دفع للسياسة الروسية، المتسمة دوماً بالنفس الطويل. ومن هنا، فإنّ ذهاب لبنان والعراق إلى اجتماعات أستانا، يعني أنّ هذا المسار السياسي قد اكتسب زخماً جديداً، وإن ظلّ في إطاره الرمزي، ليكرّس فرض نفسه على المسارات الأخرى، التي باتت منذ فترة متّصلة به، كمسار جنيف.

وامّا بالنسبة إلى لبنان، فإنّ المشاركة في لقاءات استانا يمكن أن توفّر غطاءً سياسياً ومعنوياً لمساعي عودة النازحين.

الّا انّ هذا الغطاء لا بدّ أن يأخذ في الحسبان عاملين واقعيين:

الاول، عدم قدرة روسيا وحدها على تأمين التمويل المالي الضروري للعودة.

الثاني، الإدراك التام بأنّ المناكفات السياسية حول هذا الملف لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تسهم في ايجاد حلول لهذه الأزمة الضاغطة.

فبقدر ما تحمل المشاركة اللبنانية في استانا، من ايجابيات - ولو معنوية - إلّا أنّها تضع لبنان أمام تحدّيات سياسية، يُخشى معها أن تكون المشاركة بحدّ ذاتها عنواناً من عناوين الاشتباك السياسي الكبير، سواء في الشق المتصل بالمشاركة ذاتها، التي قد ينظر إليها الفريق المعارض للنظام في سوريا، على أنّها انخراط، وإن غير مباشر، في المعسكر الروسي، أو في الشق المتصل بضرورة الوصول إلى مقاربة لبنانية موحّدة حول ملف النازحين، حتى لا يكون الدور اللبناني في استانا مجرّد حضور رمزي.

يُضاف إلى ذلك، أنّ الحراك الروسي الأخير تجاه لبنان قد لا يكون مرتبطاً فقط بملف النازحين، خصوصاً انّ جولة المبعوث الرئاسي الروسي تأتي عشية «القمة الأمنية» المرتقبة في إسرائيل بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل. ومما لا شك فيه، انّ البند الأول على جدول أعمال «القمة الأمنية»، سيكون التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، في ظل الاندفاعة الهجومية الجديدة للولايات المتحدة ضد إيران، وما رافقها من تطوّرات في الخليج، وآخرها بالأمس، مع التطور الخطير الذي تمثّل بإسقاط ايران لطائرة الإستطلاع الاميركية في المنطقة.

ويبدو واضحاً، انّ ثمة توجّهين أساسيين إزاء ما يجري في الخليج؛ الأول يقوده «البراغماتيون» في الإدارة الاميركية والقيادة الإيرانية، وإلى جانبهم روسيا والصين وبعض الأطراف الخليجية، ويسعى إلى نزع فتيل التفجير في الخليج. والثاني يقوده «الصقور» في واشنطن وطهران وكذلك في بعض دول الخليج، ويدفع باتجاه مغامرة دموية، لتحقيق أثمانٍ سياسية واقتصادية.

من هنا، قد يكون من المرجّح أن يكون الحراك الدبلوماسي الروسي الأخير محاولة لتحقيق مكاسب جيوسياسية جديدة لروسيا، الساعية إلى أن تسوّق نفسها سياسياً كراعٍ للمصالحات والتسويات الكبرى، وعلى نطاق أوسع، وأكثر استراتيجية، او للاستفادة من ارتباك السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية، لاسيما بعدما أدّى خروج الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي إلى انسحاب عملي للولايات المتحدة من دور رعاية النظام الدولي، وهو فراغ غير مسبوق، من المؤكّد أنّ روسيا ستسعى إلى ملئه، عبر اندفاعة سياسية جديدة في الشرق الأوسط.

هذا الأمر يجعل ثمة فائدة روسية - لبنانية متبادلة تتجاوز ملف النازحين، وإن كانت تتخذ منه ستاراً. فروسيا تدرك جيداً طبيعة العلاقات السياسية في لبنان وامتداداتها الاقليمية، وبالتالي فإنّ حراكها باتجاه لبنان قد يكون اختباراً أولياً لما يمكن القيام به إقليمياً.

ثمة من يقول إنّ عنصر الحماية للبنان متوفر في سياسة النأي بالنفس، ولكن في المقابل، ثمة من يقول انّ هذه السياسة اثبتت فشلها، وبالتالي امام العواصف المتكونة في المنطقة، قد يكون الأسلم للبنان الإحتماء بمظلة معنوية أكثر ضماناً لاستقراره السياسي، وتحميه من تلك العواصف التي يجمع المراقبون، أنّ لبنان بالذات قد يكون أول من سيتعرّض لرياحها الشديدة حال اندلاعها.