تتعامل إيران مع أزمتها وكأن لاختبار قدراتها العسكرية أولوية على التخلّص من العقوبات التي تستنزفها، أو كأن الإيحاء بوجود خطر خارجي عليها من شأنه أن يطغى على المشكلة الأساسية، أي العقوبات. فمن جهة هي لا تريد الحرب، لكنها من جهة أخرى لا تعتبر العقوبات إجراءً ديبلوماسياً، بل سلاحاً يخنق اقتصادها، لأن تداعياته السابقة والحالية والمستقبلية باتت تساوي ما هو أكثر من حرب ولا يمكن أن تُرفع عنها إلا بحرب. في المقابل يتصرف الخصم الأميركي وكأنه حقّق أكبر أهدافه ضد إيران، عبر العقوبات، وأن الأزمة الراهنة نتيجةٌ ومتابعةٌ لهذا الإنجاز، وتتويجٌ لضغوطه الشديدة عليها وعلى وكلائها، وبالتالي فهو بنى حساباته على أنها إذا كانت دولة طبيعية سترضخ لدعواته إلى التفاوض، بل سترضخ في أجل قريب. ذاك أن كل الخيارات الأخرى لا يفيدها: فحال كاللاحرب واللاتفاوض لا توقف خسائرها ولا تحل مشكلتها، أما الحرب فتضاعف الكلفة ولا يمكن التحكّم بكل تفاصيلها لضمان "نصرٍ" ما أو لادّعائه على الأقلّ، علماً بأنه حتى إذا حصل لا يحلّ أيضاً مشكلتها.
بعد ضرب ناقلتي النفط في خليج عُمان وارتسام الخطر على الملاحة عبر مضيق هرمز أضيء الأحمر في مختلف العواصم لتقدير احتمالات تفجّر المواجهة. فالحادث وقع غير بعيد عن قطع الأسطول الأميركي في مياه الخليج، وشكّل تحدّياً لـ "السلطة الدولية" للولايات المتحدة، ولم يكن الجدل حول "الجهة المسؤولة" سوى تجهيل مسيّس استخدمته روسيا والصين في سياق مواجهتهما المفتوحة مع أميركا بمقدار ما هو انعكاس لموقف دولي عام يخشى حصول حرب. لا يمكن أن يجهل أحد أن إيران هي الطرف المعتدي على الناقلتين اليابانية والنروجية، أما أي اشتباه آخر فيفترض أن أميركا هي التي دبّرت الحادث بالتنسيق مع أطراف ثالثة فقط من أجل تعريض ايران لمساءلة دولية، لكن الذين استندوا في تبرئة ايران إلى غياب أدلة دامغة اصطدموا في محاولتهم توجيه الاتهام إلى جهة ثالثة بغياب دافع منطقي ومصلحة واضحة، فإيران وحدها لا تخشى خسائر من تعطيل الملاحة وعرقلة الامدادات النفطية.
خلافاً لتقديرات الأسابيع السابقة أصبح شبه متفق عليه الآن أن الحرب لم تعد احتمالاً مستبعداً، فممارسات إيران تنذر بأنه خيارها، بل إنها باشرته بسجال حِيَلٍ وتكتيكات العسكرية، جاعلةً من مشاغلتها للعدو مقدّمات لحرب بدأتها فعلاً حتى لو لم تبادر إلى التهديف عليه مباشرةً. إذ أن تأجيج التوتر في مياه الخليج، معطوفاً على الهجمات التي يديرها إيرانيون ضد السعودية، تحت غطاء الحوثيين، يشكّلان مرحلة أولى في هذه الحرب. ومع أن إيران تبدو متعجّلة لاختصار الأزمة إلا أنها تخوضها بنَفَسٍ ماراثونيٍّ طويل، فأوراقها كثيرة ولا تريد كشفها واستخدامها باكراً لئلا تخسرها أو تعرّضها للخطر. لذا تكتفي موقتاً بضربات يصعب تحديد الجهة المسؤولة عنها أو بعمليات يمكن إدراجها في إطار حرب اليمن. لكن، سرعان ما ستكتشف طهران أن تكتيكاتها هذه متوقّعة مسبقاً على رغم عنصر المفاجأة فيها، وبالتالي فإنها ستعمد إلى رفع درجة التصعيد.
أما لماذا أصبحت الحرب خياراً أو مناورة إيرانيين فالأسباب كثيرة. منها: أولاً، أن الطرف الآخر هو الذي يلعب ورقة اللاحرب مكتفياً بضغوط العقوبات والاستعدادات الردعية، ومن الطبيعي أن تردّ ايران بتكتيك مضاد. ثانياً، أن في ترجيح الحرب استفزازاً وإحراجاً للرئيس دونالد ترامب وإدارته. وثالثاً، أن البديل التفاوضي لم ينضج، بل انتكس أخيراً بدليل أن ترامب علّق على فشل مهمة شينزو آبي بأن "لا الإيرانيين ولا نحن أيضاً جاهزون لاتفاق" (نووي جديد). كما أن ردّ المرشد الإيراني علي خامنئي على رئيس الوزراء الياباني بأنه لن يتسلّم رسالة ترامب ولن يردّ عليها لم يتضمن سوى فتواه بأن "العقيدة الإسلامية تمنع حيازة سلاح نووي"، وهذه حجة مكرّرة جرّبها سابقاً ولم تقنع أحداً وإلّا لما تتطلّب الأمر عامين من التفاوض للتوقيع على اتفاق يقيّدّ البرنامج النووي حتى السنة 2025 وقد ارتضاه المرشد لفترة ثم راح يهاجمه بأسوأ النعوت، على غرار ترامب الذي اعتبره "كارثياً" قبل أن يقرر سحب انسحاب اميركا منه.
لعل الدليل الآخر على إطالة الأزمة وعدم نضوج الوساطات للتفاوض أن ايران تستعد لخفض آخر للالتزامات التي يفرضها الاتفاق النووي، ومنها رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى ما فوق 3.67 في المئة وزيادة المخزون منه إلى ما فوق 300 كلغ واستئناف إنتاج المياه الثقيلة بنسبة تفوق الـ 150 طناً. هذه خطوات تشكّل خروجاً على الاتفاق أو تمهيداً لذلك، كما تعني يأساً ايرانياً نهائياً من إسهام الأطراف الأوروبية الثلاثة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في "انقاذ الاتفاق" وفي مساعدة إيران على إحباط العقوبات الأميركية. لم تكن طهران تتوقّع الاستجابةً الأوروبية التي تتمنّاها، لكنها تظاهرت بأنها - كـ "دولة تحترم التزاماتها" - حريصةٌ على الاتفاق وعلى تطبيقه من جانبها بشرط التزام الطرف الآخر عدم فرض عقوبات عليها. غير أن الشروع في خرق الاتفاق لا يزعج واشنطن، المنسحبة منه، بل يدعم مطالبتها باتفاق آخر، فيما يقلق الأوروبيين أن يروا الاتفاق ينهار وأن ينزلق بالوضع في اتجاهين: أزمة طويلة يتخللها سجال عسكري ومخاض عسير قبل معاودة التفاوض، أو تكون الحرب المباشرة بديل محتملاً للاتفاق المتهاوي.
لكن، في الانتظار، لا بدّ من معالجة الخطر على الملاحة والامدادات النفطية. والمرجّح أن يتم اللجوء إلى تأمين حماية للناقلات، كما يحصل حالياً بالنسبة إلى السفن العابرة للبحر الأحمر وتعرّضها لعمليات القرصنة، وكما حصل خلال الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي عندما استجاب رونالد ريغان طلب الكويت حماية ناقلاتها المستهدفة إيرانياً. غير أن معطيات كثيرة تغيّرت، فالولايات المتحدة لم تكن طرفاً علنياً في تلك الحرب كما هي في الأزمة الراهنة، ولم تكن مسؤولية إيران عن الاعتداءات مجهولة أو مجهّلة بل مثبتة ولم ينقضها أي طرف دولي، ثم أن الإمكانات البحرية الإيرانية لم تكن كما هي اليوم. لذلك لن يكون بناء تحالف دولي لحماية الناقلات مهمة ميسرة في ظل الانقسام الدولي الحالي، فلن تتأخر روسيا والصين في وضع العراقيل، سواء لمناكفة الولايات المتحدة أو بادّعاء أن ازدحام مضيق هرمز يضاعف المخاطر. كما أن إيران ستعترض استناداً إلى أنها لم تُتهم ولم تُدَن وأن من حقّها إبداء الرأي (أو حتى المشاركة؟) في عمليات تمس أمنها ومياهها الإقليمية، ولذلك خرج العديد من العسكريين الإيرانيين أخيراً لتأكيد القدرة على اغلاق المضيق، بما في ذلك إطلاق الصواريخ الباليستية على السفن.
الشهور الستة المقبلة مرحلة صعبة ودقيقة في تحديد مسار الأزمة، قد تحصل مستجدّات ديبلوماسية تبقي التوتر تحت السيطرة، أو تحصل تطوّرات تسرّع المواجهة. هذه المهلة الزمنية تقديرية ومبنية على تحليل الموقفين الأميركي والايراني، إذ يربطها المراقبون من جهة بزيادة تأثير العقوبات وإمكان إسهامها في قرار إيران في شأن التفاوض، ومن جهة أخرى بالموعد التقليدي لبدء الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة. يراهن الطرف الإيراني على الارتباك الأميركي ويحاول توظيفه بناءً على أن عدم رغبة ترامب في الحرب يمكن أن تضعفه أمام الناخبين إذا أجادت طهران توظيفه برفض شروط التفاوض والمواظبة على تحدّي أميركا واستفزازها عسكرياً. أما الطرف الأميركي فيعتبر أن مسألة إيران يجب أن تكون جزءاً رئيسياً من حملة ترامب، بل يُفترض أن يحقق فيها انجازاً يبرزه أمام ناخبيه ومنافسيه. آخر ما أبلغته طهران للوسطاء أنها لن تفاوض أبداً تحت وطأة العقوبات، لكن رفعاً جزئياً للعقوبات قد يساعدها على تليين وقفها. في المقابل هناك من يذكّر بأن ذهاب جورج دبليو بوش إلى الحرب على العراق، على رغم تداعياتها السيئة، هو ما أتاح إعادة انتخابه لولاية ثانية. ليس فقط أن ترامب ليس بوش الابن بل أن إيران ليست العراق، ثم أن ترامب يستطيع التمسك باللاحرب، إلا إذا استدرجته إيران إلى حرب إقليمية لن تكون خاطفة وسريعة.