هل بإمكان الأخلاق أن تتصف بالسلبيّة، أم أنها ثابتة الإيجاب؟!
دعوني أقف معكم حول هذه المسألة التي تتعلق بالمنظومة الأخلاقية بشكل عام، فربّما سمعتم أو قرأتم حول نظرية نسبيّة الأخلاق، وهي نظريّة بين مؤيّد لها ومعارض، ولكن ذلك ليس محور حديثنا.
وجّه لي أحد المؤمنين تساؤلاً، يمثّل إشكالية بحاجة إلى معالجة وتوضيح، فالحديث حول قابلية أن تكون الأخلاق سلبية؛ ربما يكون غريبًا عند البعض، وهذا الجانب نجده في كلام موجود في تفسير من وحي القرآن للسيد فضل الله (رض)، والفقرة التي دار حولها التساؤل هي: "... بل تمثّل [الأخلاق] قيمة سلبية قابلة للتّغيير في حركتها في الواقع الإنساني تبعًا للعناوين الثانويّة الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعيّة باختلافها". [من وحي القرآن، ط٢، ج٤، ص٢٠٥].
والفقرة وحدها لا تساعد على معرفة المعنى الذي يقصده الكاتب بشكل دقيق، لذلك، ينبغي لنا معرفة السّياق الذي جاءت فيه من جهة، والعنوان الذي انطلق منه الكاتب من جهة أخرى.
ولي في ذلك عدّة وقفات:
• العنوان وأصل الفكرة.
• الرّجوع إلى الطبعة الحديثة.
• اختلاف في السّياق واتفاق في المعنى.
• خلاصة القول.
العنوان وأصل الفكرة
تأتي هذه الفقرة ضمن السياق التفسيري للآيتين (٢١٧-٢١٨) من سورة البقرة، وتحت عنوان "التزاحم بين الحكمين" في الطبعة الثانية، و"الدَلالات والإيحاءات" في الطبعة الثالثة الحديثة والأخيرة 2019م .
يتحدث السيد فضل الله في البداية حول قاعدة أصوليّة تأتي ضمن المباحث العقلية، ألا وهي قاعدة "التزاحم بين حكمين"، حيث يقول: "[هناك ما] [ي]فرض اختيار الجانب الأهمّ في حسابات المصالح والمفاسد، إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء وينهانا الآخر عنه، ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معاً، لأنَّ الحكم الشّرعيّ ينطلق من المصلحة الأساسيّة للإنسان، من خلال ما ثبت لدينا من أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها"، وتنظر هذه القاعدة إلى الملاك الأهمّ، فتقوم بتقديمه على الملاك المهمّ، ولذلك حديث أصوليّ، فراجع الكتب الأصوليّة في ذلك.
وانطلاقًا من هذه القاعدة، يطرح السيّد فضل الله مثالاً ضمن سياق الآيتين، فهي تتحدّث عن القتال في الشّهر الحرام ومبرّراته في الإسلام، "فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشّهر أو المكان، وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعاً أو مهزوماً أمام ضربات الكفر، فإنَّ من الممكن أن نتجاوز حرمة الشّهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا؛ بل قد يجب ذلك في بعض المجالات، إذ وإن كانت حرمتهما جزءاً من التشريع الإسلاميّ، لكن لا يمكن أن تتقدَّم على سلامة الإسلام نفسه".
وكذلك يعطي مثالاً أخر في هذا المجال، فلو دار الأمر بين أن تذكر شخصًا بغيبته، فتقوم باغتيابه بدافع الدفاع عن الحقّ وإظهاره، وبين عمومية حرمة الغيبة في الإسلام، فإنّ القرآن الكريم يسمح لك – استثناءً - بأن تزيل المظلومية عن نفسك، وإن ترتب على ذلك الغيبة، لقوله تعالى: }لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ الله سَمِيعًا عَلِيمًا{. [النساء: 148]، ولذلك يقول السيد: "فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدَّث عن ظالمه بالسوء، من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه، باعتبار أنَّ مصلحة رفع الظّلم عن المظلوم، أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم".
ومن هنا، تأتي فكرة "الغاية الكبرى تبرّر الوسيلة المحرّمة"، فالسيد هنا يعطيها تعبيرًا آخر، أن الغاية الكبرى قد تجمّد أو تنظّف أو تطهّر الوسيلة المحرَّمة، وذلك من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام، فيقول: "فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحوّلت إلى خطر على حياته أو على مصير الإسلام والمسلمين، كما لو أريد له أن يتحدَّث، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمثّل إظهارها خطراً على السلامة العامة؛ فيجب عليه في هذه الحالة، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبرى؛ ويحرم عليه الصّدق الذي يؤدي إلى السقوط الكبير، لأنَّ الكذب يمثّل القيمة السلبية الأخلاقية، كما يمثّل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخطّ العام."
فالصدق حالة طبيعية، والكذب المشروع حالة طارئة ضاغطة تقوم على سلبه القيمة السلبية وإعطاءه قيمة إيجابية، فالكذب إذاً في هذه الحالة يعطى قيمة إيجابية، بينما الصّدق يعطى قيمة سلبية، لماذا؟! يقول السيد: "لأنَّ المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب، بحيث يكون علّة تامّة للسلب هنا أو للإيجاب هناك، بل تنطلق من الحالة الاقتضائية المنفتحة على النتائج بشكل عامّ، ولكنَّها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها من التأثير في المقتضى بدرجة فعلية".
هذا ما كان يقصده السيد فضل الله من حديثه بشكل عام، فالفقرة التي أوردناها والتي هي مورد المشكلة، تأتي في نهاية هذا الحديث، ما يعني أن الفقرة تعاني مشكلة صياغية، فهي لا تتناسب مع السياق ذاته، ومن خلال متابعتي مع سماحة السيّد جعفر فضل الله؛ أكّد لي هذا الأمر، ولذلك قام السيد فضل الله بتصحيح العبارة كما سيأتي بعد ذلك، وهذا ما أكّده عضو اللجنة الشيخ جهاد فرحات، أنّ العبارة في الطبعة السابقة، تمّ التصرّف فيها من قبل بعض من عملوا على تلك الطبعة، وذلك خلافاً لإرادة السيد فضل الله، فأرجعت العبارة إلى ما كانت عليه في أوّل طبعة، فصارت أوضح، ولله الحمد.
الرجوع إلى الطبعة الحديثة
وردت هذه العبارة، كما قلنا، تحت عنوان "الدلالات والإيحاءات"، وفي النقطة الثانية تحديدًا، وهي: القتال الحرام وقواعد التّزاحم. ومن الواضح أن العناوين قد تغيّرت، والفقرة قد طرأ عليها التّغيير أيضًا، حذفًا وإضافةً، ودعوني أوضح ذلك بنقل نصّ الفقرة من الطبعة الثالثة الحديثة كما هي، ومقارنتها بسابقتها في الطبعة الثّانية، والتي أخذ منها المقطع المشكل عليه:
"وهذا ما يجعلنا نؤكّد أنّ الأخلاق في الإسلام لا تمثّل قيمة إيجابيّة مطلقة، بحيث يجب مراعاتها في كل الأحوال والظروف، بل هي تمثّل قيمة إيجابيّة قابلة للتغيُّر في حركتها في الواقع الإنساني، تبعًا للعناوين الثانويّة الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعيّة باختلافها".
وكما تلاحظون، قد تمّ توضيح المعنى بشكل أدقّ، وإزالة الشبهة والخطأ، فكلمة "سلبية" كانت خطأً مطبعيًّا بلا شك، وذلك بقرينة السياق العام كما بيّنّا، فتمّ إزالتها واستبدالها بكلمة "إيجابيّة"، وهي التي تتواءم مع السياق العام للمعنى الذي يتحدّث فيه السيد فضل الله.
اختلاف في السياق واتّفاق في المعنى
إن ما تفضل به السيد فضل الله في تفسيره للآيتين (217-218) من سورة البقرة، سواءً كان في الطبعة الثانية أم الثّالثة، لا يقصد به أن الأخلاق تمثّل قيمة سلبية قابلة للتّغير في حركتها في الواقع الإنسانيّ، تبعًا للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعيّة باختلافها، لأن الفقرة لو تركناها دون أيّ تعديل، فهي تكون بلا شكّ في حالة نشاز لا تتناسب مع السّياق والمعنى.
فالسيد فضل الله بيّن مقصده قبل الوصول إلى هذه الفقرة، وما هذه الفقرة إلا استطراد للمعنى العام الذي تحدّث عن وضع الأخلاق في الحالة الطبيعيّة، ووضعها في الحالة الطارئة الضاغطة، فالأخلاق قيمتها الحقيقيّة دون طروء شيء، تمثّل قيمة إيجابية وليس سلبيّة، وقد أعطى مثالاً على ذلك وهو الكذب، فعندما يكون عدم إخبار عملاء الاحتلال مثلاً بمكان تواجد المجاهدين، والكذب عليهم حفاظًا على أرواحهم، ففي هذه الحالة يعدّ كذبًا، ولكنه كذب مشروع، بل راجح وواجب، والإخبار بداعي الالتزام بالصدق؛ يعدّ ذميمة وسلبًا، وهذا ما يبني عليه حتى العقلاء.
خلاصة القول
إنَّ ما قدَّمه السيّد فضل الله من معيار قيميّ لمعرفة قيمة السّلوك واتجاهه؛ هل هو متّجه نحو السّلب أم الإيجاب؟ إنَّما هو مستند إلى النصّ الديني والبناء العقلائي في الوقت نفسه، فالإنسان بمقدار ما يكون مؤمنًا، ويرغب في الالتزام بالمنظومة الأخلاقيّة وعدم مخالفتها، فإنّه ينبغي عليه هو في الوقت ذاته، معرفة تكليفه الشّرعي حقيقة، ففي بعض الأحايين، لا يكون مخيّرًا باتخاذ أيّهما له قيمة إيجابيّة، بل أيّهما له أهميّة ومصلحة.
كتب: الشيخ صلاح مرسول البحراني