في المواجهة السياسية، التي جرت أخيراً بين الحريري وباسيل، بقي «حزب الله» في وضعية المتفرّج، ولم يكن خائفاً لا مِن «حَرَدِ» الحريري ولا مِن «دَلَعِ» باسيل. فهو يسيطر تماماً على اللعبة «عن بُعْد»، ويعرف أنّ الرجلين محكومان بالتسوية المعقودة في خريف 2016، ولا يمكن أيّ منهما أنّ يتخلّى عنها.
ما يهمّ «الحزب» هو أن يراعي الجميع ضوابط «الصفقة»، والبقية تصبح تفاصيل. ومعنى ذلك، أن يستمرّ الشريكان المسيحي والسنّي في نهج التخلّي له عن القرارات والخيارات الاستراتيجية، كالسلاح وشؤون الحرب والسلم والمَحاور الإقليمية… ويبقى لهما الهامش مفتوحاً للعب أوراق السلطة والنفوذ وتقاسم الغنائم في الداخل.
لذلك، الحملة التي شنّها باسيل على الحريري يُراد منها خلق حالة ضاغطة عليه، لمفاوضته على التعيينات والمشاريع والحصص المُقبِلة، وهي كثيرة وترتدي أهمية حسّاسة من جوانب أمنية وقضائية وإداريّة وماليّة واقتصاديّة. ويرجّح المتابعون أن تكون الحملة قد نجحت في تحقيق أهدافها. فالحريري سيُضطر إلى التلهّي بالدفاع عن حصّته السنّية، وسيقاتل من أجل إبعاد أي تدخّل من جانب فريق رئيس الجمهورية و«التيار» عن هذه الحصّة. وهذا الواقع سيتيح لفريق عون - باسيل أن يطالب الحريري بالمعاملة بالمثل، أي بعدم التدخّل في التعيينات والحصص المسيحية.
وفيما سينصرف الحريري إلى الدفاع عن حصته السنّية، فإنّ فريق عون- باسيل سيكتسح الحصّة المسيحية بنحوٍ شبه كامل، لأن القوى المسيحية الأخرى، كـ«القوات اللبنانية» و«المردة» و«الكتائب»، لن تجد الدعم السياسي اللازم لتحصل على ما يناسب حجمها.
فـ«حزب الله» لن يهتمّ لتمثيل «القوات» و«الكتائب» لضرورات الخلاف في الخيارات الاستراتيجية، لكنه قد يسعى إلى حدّ أدنى من حضور لـ«المردة». وربما يكون الرئيس نبيه بري هو الطرف الوحيد، الذي يمكن أن يهتمّ بتمثيل «القوات» وإيجاد تنوّع في التعيينات المسيحية، ما يخفّف من وطأة الاحتكار العوني.
فبري عاش التجارب السابقة، التي عمد فيها باسيل إلى افتعال مواجهات قاسية معه، أبرزها تلك التي جرت عشية الانتخابات النيابية العام الفائت، على خلفية تسريب «فيديو». ومن الطبيعي أن يكون بري مرتاحاً إلى التنوّع داخل البيئة المسيحية، الذي عبّر عنه حصول «القوات» على كتلة من 15 نائباً في المجلس النيابي الحالي.
ويمكن النظر إلى الإشارات الساخنة، التي يطلقها رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط في إتجاه الحريري وباسيل و»حزب الله»، بأنها من باب التذكير بوجوده، وبأنّه صاحب الكلمة في الحصّة الدرزية. وهذا الأمر سيكون أيضاً مرهوناً بما يمكن أن يقدّمه بري لصديقه القديم.
إذاً، في المرحلة المقبلة، سيترك «حزب الله» للشريكين المسيحي والسنّي أن يُطلقا المرحلة الثانية من التسوية، أو التسوية المُعدَّلة الأكثر ملاءمة لفريق عون وباسيل. وثمّة مَن يعتقد أنّ مجرد قبول «الحزب» بإطلاق يد باسيل في هذه الشراكة سيعني أنّه الحليف المسيحي المتقدّم في السباق المقبل إلى موقع الرئاسة الأولى.
ويراهن باسيل على أن «الحزب» لن يجد خياراً أفضل منه للحصول على التغطية السياسية المسيحية في المرحلة المقبلة، كما أنّه لم يجد أفضل من عون عند تسميته. وأما البديل الوحيد، الذي يحظى بثقة «الحزب»، رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، فسيجهد ليحسِّن حظوظه بعد توثيق التحالفات مع خصومه المسيحيين.
السؤال هو: هل سينتقل العهد من مرحلة الحدّ الأدنى من التنوُّع في إدارة الحكم، خلال الأعوام الثلاثة الأولى، إلى مرحلة احتكار الثلاثي باسيل - الحريري - «حزب الله» (وبري ضمناً) للسلطة في الأعوام الثلاثة المتبقية؟
ما يهمُّ «الحزب» من المعادلة هو أن يحظى بدوام التغطية ليتمكّن من مواجهة التحديات، التي يفرضها عليه النزاع بين الولايات المتحدة وإيران، والتحوّلات في الملف السوري، ومسار التسوية مع إسرائيل. ولا يَستبعد «الحزب» أن يصل في المواجهة إلى مرحلة حاسمة أو حتى مصيرية بالنسبة إليه.
وفي هذه الحال، يهمّ «الحزب» أن يحافظ على التسوية، لأن عون يوفِّر له التغطية المسيحية داخلياً وتغطية غربية، أميركية وأوروبية، وازنة. كما أنّ الحريري يوفِّر له التغطية السنّية داخلياً وتغطية عربية وازنة، وخصوصاً من جانب المملكة العربية السعودية والمحور العربي الحليف لها.
وحتى اليوم، احتمى «الحزب» وراء هاتين التغطيتين، عون والحريري، وليس في مصلحته أن يتخلى عن أيّ منهما. وفي المقابل، يحتاج فريقا عون والحريري إلى تغطية «الحزب»، بالتأكيد ليتمكنا من الاحتفاظ بأوراق القوة داخل السلطة.
فعون وباسيل (من موقعه في الخارجية) بذلا كثيراً من الجهود، التي ساعدت «الحزب» على مواجهة الحملة الأميركية الأخيرة، وهما يحظيان بدعمه الكامل في المواجهة مع إسرائيل والوساطة الأميركية حول ترسيم الحدود. ولذلك، يبدو دور عون وفريقه حيوياً للدفاع عن «الحزب».
وكذلك، يُخطئ مَن يعتقد أنّ «حزب الله» عاتبٌ على الحريري، بسبب مشاركته في القمّة العربية الطارئة في مكة والمواقف، التي أطلقها هناك، والتي تنسجم مع الرؤية السعودية وتدين السلوك الإيراني. وأساساً، لو كان «الحزب» معترضاً، لما أقدم لبنان الرسمي على المشاركة.
فـ«الحزب» وحلفاؤه تعاطوا بواقعية مع مسألة المشاركة في القمة والموقف المُعلن خلالها، إنطلاقاً من التوازن، الذي يعتمده لبنان الرسمي بين السعودية وإيران. فهناك فوائد كثيرة يجنيها «حزب الله» من إبقاء جسور التواصل قائمة بين لبنان والمملكة، وأبرزها:
1- إظهار أنّ «الحزب» لا يفرض خياراته المنحازة إلى إيران على الدولة اللبنانية، وأنّه موافق على التوازن في سياسة لبنان تجاه المَحاور الإقليمية، ومَرِنٌ في التعاطي مع المملكة.
2- إتاحة الفرصة لإبقاء الغطاء السعودي، والخليجي عموماً، للإقتصاد اللبناني، في أكثر الظروف الاقتصادية والمالية إحراجاً.
3- تمكين الحريري من الاحتفاظ برصيده في المملكة. وهذا الرصيد يريد «الحزب» أن يستثمره عند الحاجة لتخفيف الضغوط عنه.
4- يدرك «حزب الله» أنّ موقف الحريري المُعلن في مكة هو موقف «مِنْبَري»، ولن تكون له أي ترجمة عملانية. فلا بأس من التضامن الكلامي مع الخليجيين. وحتى إيران قد لا يسيئها الأمر إلى هذا الحدّ.
وهكذا، فإنّ «حزب الله» سيتكفّل الإبقاء على «زواج المتعة» بين الحريري وباسيل. إنهما عملياً «عُصفورا حبّ» في قفص «الحزب». وهو لن يخشى انفراط عشّ الزوجية ما دام مُمسكاً بباب القفص، ويؤمّن للطرفين فرصة الشعور بالمتعة.