ليالي الشمال الحزينة، زحفت وتمددت فغطت لبنان الذي اتشح عيده بالرمادي حدادا على شهدائه الأربعة.
صحيح أن أحدا لم يتمكن أن يمنع تماما عمليات كالتي حصلت في طرابلس؛ مع ذلك بدت مدينة منذورة للحزن والفقر والعنف حتى في أعيادها. فلا يكفي الإهمال والظلم اللذان تتعرض لهما من الدولة؛ لكن يفاقمهما أن من بين أهلها من هم من أغنى أغنياء العالم، ويتصرفون وكأنهم من كوكب آخر!
طرابلس هذه كلما استقرت وعادت إليها نسمات الحياة الطبيعية تعرضت لهجوم له طابع إرهابي أمني أو أصولي.القتل والإرهاب السني مرفوض؛ فيما القتل والإرهاب الشيعي مقبول ومقاوم!
طرابلس، التي كانت إحدى أجمل مدن المتوسط؛ يصفها خالد زيادة في ثلاثيته “مدينة على المتوسط”: “طرفها على المتوسط الشرقي، بينما يمعن بعضها الآخر في تاريخ داخلي قديم. بضع مئات من السنين يحملها عمران من حجارة رملية ومآذن ودروب ضيقة تجابه كل ما حملته بدايات القرن العشرين من نماذج تتبادلها شواطئ المتوسط”.
طرابلس إحدى أقدم المدن المنفتحة على المتوسط وأعرقها، لبست لبوس التحفظ والتزمت في السنوات الأخيرة، لكنها احتفظت “بالمينا” حيث لا يزال بإمكانك تناول كأس من العرق مع السمك. “المينا”، الذي أطلق عليه اليونانيون فيما مضى اسم “الأسكلة” وصار حينها محطة “ريّاس البحر” اليونانيين وسواهم، وتشكلت جالية منهم كانت نواة هذه القصة. طرابلس هذه تعاني الإهمال المتمادي والظلم.
بمناسبة زيارة قمنا بها مؤخرا لحضور حفلة طرب، تحسرنا مجددا على غياب طرابلس وآثارها وأسواقها عن الخارطة السياحية للمواقع الأثرية؛ ففيها ثاني أكبر وأجمل سوق مملوكي في المنطقة، بعد سوق خان الخليلي. ناهيك عن القلعة والحمامات التركية والأبنية ذات الطراز المعماري الكولونيالي، التي تضاهي وسط مدينة بيروت (الدوان تاون) لو تم تجديدها والاعتناء بها. أما خان الصابون فيكفي أن نعاين بقايا النفايات التي تغطي أرضية البركة التي تتوسط المعامل ـ المغلقة في معظمها ـ كي نعرف أحوال السوق وأهله.
لا شك أن الفقر الذي غلبها وزنّر أحياءها جعل من بعض أبنائها فرائس سهلة لداعش وشقيقاتها.
لكن ما يلفتك عند الطرابلسيين هو الجهد والحماس الذي يبذلونه ليبعدوا عنهم تهمة “الإرهاب” الذي يستسهل البعض رمي المدينة ومعها الطائفة السنية به؛ فيما من يعاني منه هم أهل طرابلس نفسها.
من هنا نجد الطرابلسيون وكأنهم في حالة دفاعية ـ بالمعنى النفسي للكلمة ـ ما يجعلهم شديدي الحساسية ويفهمون أي تعليق على أنه اتهام لهم بالإرهاب! أعاد الاعتداء الأخير الذاكرة المثقلة بكل التجارب الماضية المشابهة.
لكن المستغرب هو استغلال التفجير للجوء إلى خطاب عنصري يبث الكراهية، في تزامن مع حفلة شيطنة السوريين، من قبل مرجعيات رسمية تزعم العلمانية وتبني الوحدة الوطنية وتدعو لحوار الأديان! كما جرت محاولة ضرب الأجهزة الأمنية بعضها ببعض وكأنها أجهزة عدوة!
هذا بدل ممارسة دور احتوائي، من قبل من هم في السلطة، هدفه تعزية أهالي الضحايا وتهدئة الأجواء.
كما الأغرب من كل ذلك استخدام التفجير لاتهام طائفة بأكملها! الأمر الذي تسبب بردود فعل غاضبة تهدد فعليا التسوية والسلم الأهلي والوحدة الوطنية. وذلك لغايات شعبوية رخيصة!المستغرب هو استغلال التفجير للجوء إلى خطاب عنصري يبث الكراهية
وإذا كان من الطبيعي أن يكون أهل الضحايا مشبعين بالكراهية والرغبة بالانتقام، لأن الألم والحزن العميق يعطي رغبات القتل والثأر، لكن الأمر يصبح غير مفهوم عندما تتخذ السياسات الحكومية هذا المنحى العاطفي والانفعالي. فمعظم ردود الفعل السياسية، كانت متسرعة وآنية ولم ترتق بالفعل إلى مستوى الحدث. الضحايا العسكريون وأهاليهم واللبنانيون عموما يستحقون أفضل من ذلك.
في الواقع كان التعاطف والإحساس بالمسؤولية في الموقف المتزن لقيادة الجيش والقوى الأمنية، وعند المجتمع الأهلي والمدني أعلى من ذلك الضي تبناه بعض المسؤولين. فأظهروا الحب والتعاطف المطلوبين، وبينوا الأولويات التي ينبغي معالجتها قبل كيل الاتهامات لمدينة وطائفة بأسرها.
وبعيدا عن النقاش غير المجدي، من نوع: هل إن منفذ الاعتداء على الأجهزة الأمنية ليلة العيد مريض نفسي أم لا؟ هو يحمل أيديولوجيا داعش، وكما صار معلوما إن كل أيديولوجيا، وهذه على الخصوص، هي آلية يوظفها كثيرون لملأ الفراغ الوجودي والفقر الحياتي الذي يعيشونه. القضاء على الآلية لا يكفي للقضاء على استخدامها. صحيح أن هناك آليات أخطر من غيرها. لكن أهم من الآلية، التي تستحق العمل عليها ومتابعتها بالطبع، هو معرفة مصدر أو منبع الخطر! وهنا يبدو من المهم معرفة ما الذي يجعل شخصا ما يجد أن في الارهاب وإزهاق أرواح الآخرين خلاصه هو!
وأي حاجات نجحت هذه الأيديولوجيا في استيلادها! ولماذا وجدت الآن من يلبيها؟
من هنا نجد أن الإرهاب يطرح مشاكل ذات أبعاد متعددة وجدت بشكل متواز ومركب. لذا الاستجابة للرد عليها تكون على نفس مستوى التعدد والتركيب. الاستجابات الأمنية ضرورية ولكنها غير كافية. التدابير المطلوبة تتعدى الأمن إلى النواحي السياسية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. دون إغفال العدالة في كل ذلك. الاكتفاء بالأمن وحده يسقطنا في فخ داعش. من هنا الضرورة القصوى لمعالجة ملف الموقوفين الإسلاميين والتعجيل بإجراء محاكمات عادلة.
سؤال آخر مهم، لا يبدو أنه يشغل بال المسؤولين السياسيين: هل ثمة شيء من روح العدالة أو المسؤولية وحفظ السلم الأهلي في شيطنة طائفة ومجتمع بكاملهما بسبب أعمال فردية في النهاية؟
وما يفاقم التحيز، التغاضي، في المقابل، عن سلوك فئة أخرى من المواطنين، ينطلقون في جميع أعمالهم من منطلق طائفي مذهبي هم أيضا!الإرهاب يطرح مشاكل ذات أبعاد متعددة وجدت بشكل متواز ومركب
ونأسف لاضطرارنا أن نسأل ما يلي: ما هو المبرر الذي يجعل المتطرف الفردي السني إرهابيا والمتطرف الشيعي، الذي يقتل في سوريا واليمن والعراق، مقاوما؟ هل هناك أيديولوجيتان للقتل جاري التمييز بينهما؟
القتل والإرهاب “السني” مرفوض؛ فيما القتل والإرهاب “الشيعي” مقبول ومقاوم فوق ذلك!
هل هي مفاعيل تحويل لبنان إلى “الدولة الصديقة” التي يؤسس لها حزب الله بمساعد عهد الرئيس ميشال عون؟
جميع الأيديولوجيات تنتهي مفاعيلها لأنها تفقد صدقيتها لسبب بسيط هو أن مسؤوليها الأكثر حماسة يتصرفون بما يخالف أقوالهم ولا يفصحون عن أعمالهم الحقيقية. ومن غير المفيد استدعاء العقل هنا، ليس هناك سوى ممارساتهم لفضح تناقضاتهم.