ما يبدأُ به نص بوريكو الموسوم «1900» مرتبط بسلسلة وحداته المُتتالية، بحيثُ إذا كان عنوانه مؤشّراً إلى عنصريَ الزمن والشخصية فإنَّ المُفتتح يضيء البؤرة المكانية، وهي ظهر السفينة المُتّجهة نحو أميركا. ويتبعُ باريكوُ هذا المسلك نفسه في «بلا دماء»، مع وجود إختلافٍ، وهو الإهتمام في نصّه الأخير ببنية الحدث، مع الإشارة إلى الحاضنة المكانية من دون تسميتها، إذ يرصد الراوي الأجواء المتوترة، التي تسودُ في القرية عقب وصول سيارة مرسيدس تقلُّ أربعة رجال.
التقنية السينمائية
هنا يستفيدُ آليساندرو باريكو من التقنية السينمائية ويخبرك عن تصرُّفات مانويل روكا ومهمته المنبئة بوقوع الحدث، عوضاً عن كشف هوية هؤلاء الوافدين، أو الغاية من تواجدهم في المزرعة، وما يريدون القيام به. يُنقل ما يدور بين مانويل روكا وإبنيه بصيغة غير مباشرة ومن ثُمَّ تنصرف حركة السرد إلى مستوى آخر وهو موقع الشخصيات الأربع، وبذلك تنقسمُ المساحة إلى مربّعين قبل أن يبدأُ الإشتباك بين صاحب البيت والوافدين المُسلحين. إذ تنهار أجزاءٌ من البيت بفعل طلقات النار وتتخللُ هذا المشهد حوارات خاطفة وملفوظات معبّرة عن الموقف المُتصاعد، كما ينجلي الإبهام عن أسماء الشخصيات. وندرك بأنَّ الرهان معقودٌ على الصبي تيتو لاقتحام البيت، والحال هذه يتراوحُ مظهر السرد بين النمط التَمثيلي والمحكي.
نسق الإضمار
تقومُ القصةُ على وقائع مضمرة يكشفُ عنها الحوار المُتبادل بين الشخصيات. ويمضيُ السردُ من دون معرفة الغرض من وراءِ الإقتتال ومداهمة المُسلّحين للقرية والأمر يلفّه الغموضُ. كذلك بالنسبة إلى بعض شخصيات القصة، خصوصاً نينا المختبئة داخل فتحة أرضية، حيثُ تراودها رغبة السؤال عن هؤلاء الرجال ومطالبهم من أبيه، إذ يتقاطع صوتُ نينا مع مُحادثة المسلّحين مع مانويل روكا، الذي ينجحُ الصبي في أسره. مع ذلك، يُفهمُ من السياق أنَّ روكا حاول استعادة زمام المبادرة بمسدسه لكنه فَشِل. طبعاً يَفصلُ بين تحسّس روكا لسلاحه ولحظة دخول المسلحين الآخرين إسترجاعُ «أل جوري» لحادثِ مقتل زوجته وأبنائه مشنوقين قبل ثلاث سنوات. ما يعني أنَّ الراوي لا يتدخّلُ لذكر تفاصيل المناوشة، إنما إصابة يد روكا تومئ إليها. عليه، يحضرُ ساليناس مُخاطباً روكا بالدكتور، وما يتواردُ في إطار الصيغة المشهدِية يكشفُ عن الخصومة، التي تعودُ إلى زمن الحرب بين الطرفين. وفيما يؤكدُ الدكتور أنّ الحرب قد انتهت، يبدي ساليناس عدم اقتناعه بهذا الرأي، مبلغاً غريمَه أن من ينتصر، هو الذي يقرّر متى يُسدلُ الستار على فصول الحرب. ويحذّر الدكتورُ تيتو من تهوّره وضياع عمره وراء قضبان السجن، إذا لُطخت يداه بالدم. يعقّبُ ساليناسُ على كلامه مشيراً الى أنَّ لا أحد يتذكّره. أصبح الجميعُ مشغولين بأمورهم وأخذ يسردُ جانباً من معاناة أصدقائه المُحاربين في المستشفى الذي كان يعملُ به روكا، حيثُ وقعَ هؤلاء بقبضة الموالين للجيش، وأراد ساليناس المُلقّب بالفأر القضاء على أعدائه، قبل إنقاذ رفاقه، غير أنَّ الوضع هاله، عندما رأى تهالكهم وتلفّظ أنفاسهم الأخيرة، وكان أخوه موجوداً بين الجرحى وتوسّل إلى ساليناس بأن يقتله، وما كان من الأخير إلّا أن طلب من «إل بلانكو» تنفيذ رغبة أخيه الجريح.
يشارُ إلى أنّ صوت ساليناس ينفردُ بمسرح النص، وما يتطلّبُ هذا التحوّل هو التفصيل، الذي يقدّمهُ منْ يحلُّ مكان الراوي، أيّ الشخصية المؤثرة حول مُناخ الحرب. كما أنَّ ذلك يحضّرُ لحدثٍ جديد وهو مقتل الدكتور وابنه اليافع في موقف مشحون بالتوتر والنبض الدرامي. بمحاذاة هذه التطورات، تظل نينا المتوارية على مرمى نظر الراوي، ويراقب ردّات فعلها على ما يصلها من أصوات إطلاق النيران. قبل أن يغادرَ المسلّحون المكانَ فتّشوا عن الطفلة، لم يعثرْ عليها سوى تيتو، الذي تذكّرَ فاجعة لحظة تسلّم عيني أبيه من أشخاص مجهولين.
مهارة الإنتقال
يَكمنُ ذكاءُ باريكو في الإنتقال بين الوحدات، وبذلك وفّر على نصّه تبذيراً لغوياً، حيثُ يكونُ المتلقّي أمام واقع جديد. في القسم الثاني من النص يتخيّلُ لك في البدايةِ أنَّ ما يضمّهُ هو عبارة عن قصّة مُستقلّة. غير أنَّ الحوار المُتبادل بين المرأة وبائع ورقة اليانصيب في المقهى عبارة عن تكملة هذا الجزء لما سبقهُ. فالرجل المسنّ هو تيتو، وما المرأة إلّا نينا، التي وجدها الأولُ طفلةً في مُخبئها. يشيرُ بائع اليانصب إلى مقتل ساليناس في ظروف غامضة، ملمّحاً إلى تورّط طبيبه أستارتي، الذي راكم ثروة في الحرب في تسميمهِ. كما وُجِدَ «إل جوري» مقتولاً وفي جيبه رسالة مكتوب عليها «دونا سول»، وهو الإسمُ الجديد لنينا. يسترسلُ الرجلُ في الحديثِ مُخاطباً المرأة بأنه لم يتوقع أنْ تقتله من ظهره، مُستعيداً لحظة رؤيته للطفلة المختبئة، إذ احتفظ بهذا السرّ على مرّ السنوات. ومن جانبها تسردُ المرأةُ قصتها مع الصيدلاني ريكاردو أوريبي، الذي تكفّل برعاية الطفلة اليتيمة، وما أنّ تكبر الأخيرة حتى تثيره أنوثتها، لذلك وَجد لها خطيباً لتفادي الإنسياق وراء المشاعر الساخنة.
ما يَكسبُ هذا النص الفرادة هو اقتصاره التعبيري وتنوّعه في مظاهر السرد وتمتّع الشخصيات بوضعيات مُستقلّة، والتواصل مع فن السينما لجهة الحذف والإيحاء والإسترجاع الداخلي، الذي يتمثّل في عودة نينا إلى الوضعية، التي كانت عليها داخل المخبأ، بعد صولة غرامية حميمة مع منقذها في فندق كاليفورنيا. وفيما تأخذ الذكريات المرأةَ نحو الماضي يخبرك الراوي بحركة الأضواء الحمراء على اللافتة، التي تعلو واجهة الفندق. ولا يُخفى هنا التواصل بين دلالة اللون والعنوان. كما يذكِّركَ ختام المشهد بنهاية الأفلام السينمائية.
ما يجدرُ ذكره أنّ هذا النص مرفق بملحقٍ يتناولُ فيه باريكو دور السرد والقصة في وقائع تاريخية جسيمة، حيث يردُ في سياق ورقته أسماء الأسكندر المقدوني، وكورش الفارسي وباراك أوباما، بوصفهم قادةً لم تخلُ حياتهم من سحر القص.