قبل 4 أعوام، تمّت الصفقة في معراب بين ركنين: العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. يومذاك، كان الوزير جبران باسيل في الصف الثاني في هرميّة الزعامة العونية.
اليوم، نجح باسيل في أن يصبح موازياً مرجعياً لجعجع على المستوى المسيحي، بعد اعتلاء عون سدة الرئاسة. كذلك نجح في أن يصبح موازياً للزعامات الطوائفية الكبرى: الحريري، جنبلاط، والثنائي الشيعي، بعدما أصبح عون في الموقع الرمزي «بيّ الكل».
لقد أتقن باسيل أن يستظلّ العهد ويقوى به. وفي الترجمة العملية، هو نجح في استثمار الأعوام الـ3 الأولى من العهد ليكون المرجعية المارونية الأولى. وهو يستعد اليوم ليتأهّل في الأعوام الـ3 الأخيرة من العهد ليكون صاحب العهد المقبل. وهذا الأمر بات وارداً.
والأرجح أنّ «هفوات» باسيل و»سقطاته» المثيرة للجدل السياسي، من نوع «ويكيليكس» أحياناً، والتي يعتبرها البعض مقتلاً له، لها دور أساسي في خلق الدينامية حوله وتلميع صورته وتثبيت موقعه السياسي.
ويذكّر البعض بأنّ تسوية 2016، بين عون والحريري، قامت أساساً على صفقةٍ بين باسيل ونادر الحريري. ومفاعيل هذه الصفقة هي التي تحكّمت بالعهد حتى الانتخابات النيابية وتأليف الحكومة.
ومن اللافت أنّ الحلّ والربط في أيّ خلاف حول «التسوية» لا يتمّان بين الحريري وعون كشريكين في الحكم، بل بين الحريري وباسيل كشريكين في الصفقة. وهذا نموذج فريد من نوعه بين رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة، خصوصاً بعد «إتفاق الطائف».
وهكذا، يستعدّ باسيل للمرحلة الثانية من عملية التأهّل لاستحقاق الرئاسة المقبل. وما يعنيه في الدرجة الأولى هو تثبيت موقع متقدم على المرجعيات المارونية، بحيث يصبح صعباً على القوى النافذة أن تعترف بأنّ سواه يحمل صفة «الأقوى في طائفته».
إذا جرى في الانتخابات الرئاسية المقبلة اعتماد المنطق الذي ساد عند تسمية عون، أي اختيار شخصية مارونية تتمتع بقاعدة شعبية، فسيكون جعجع هو المنافس الأول لباسيل كما كان المنافس الأول لعون.
ولكن، بالتأكيد، سيتم استبعادُ جعجع مجدداً إذا كان الحريري يريد البقاء في رئاسة الحكومة. فالتوازن القائم لا يسمح بأن يكون القيِّمان على السلطة التنفيذية كلاهما من 14 آذار. كما أنّ «حزب الله» لا يقبل بجعجع إطلاقاً في موقع الرئاسة.
سيكون جعجع في 2022- كما كان في 2016- ناخباً كبيراً، لا مرشحاً كبيراً. ولذلك، لا يخشى باسيل اليوم منافسته رئاسياً. والمواجهة الحقيقية يخوضها باسيل مع سليمان فرنجية الذي كاد أن يصل في العام 2016، لولا تهديدُ عون بقلب الطاولة على اللاعبين ولجوؤه إلى التحالف مع جعجع.
وهنا يتضح تماماً ما يفعله باسيل حالياً: هو يطلق النار على تحالف جعجع- فرنجية لئلّا يكون الأول ناخباً قوياً يمكن أن يرجِّح كفّة الثاني للرئاسة. فالقطبان المسيحيان ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل يمكن أن يشكلوا غطاءً لقاعدة مسيحية توازي قاعدة «التيار الوطني الحر» أو تتجاوزها، وإن تكن بينهم تباينات شاسعة في النظرة إلى الملفات الاستراتيجية. وقبل أسابيع قام فرنجية بزيارة لافتة للبيت المركزي الكتائبي.
إذاً، يهمّ باسيل أن يتقلّص نفوذ جعجع في الحكومة والإدارة والتعيينات المقبلة، أي في السلطة والخدمات. وطبعاً، سيعمل لئلّا تبقى كتلته بهذا الحجم في المجلس النيابي المقبل، بحيث لا تكون كتل «القوات» وفرنجية والكتائب موازية لكتلة «التيار» وقادرة على توفير التغطية المسيحية لانتخاب فرنجية.
ومن هنا، يمكن القول إنّ المعركة التي بدأت تظهر معالمها بعنف بين باسيل وجعجع هي معركة الرئاسة المقبلة. وفيها يصوِّب باسيل على جعجع، لكن فرنجية هو الهدف النهائي. وسيستخدم كل طرف ما يملك من ملفات وأوراق لتدعيم مواقعه. وطبعاً، ستدخل مسألة الرئاسة في مجال المساومات على أنواعها.
البعض يسأل: إذا كان «تفاهم معراب» هو الذي سهَّل وصول عون إلى بعبدا، فهل يمكن أن تتكرّر الصفقة لإيصال باسيل مقابل تقاسم جديد للحصص مع «القوات»؟
فيوم تمّ «التفاهم»، اعتبر «التيار» و»القوات» أنهما يختصران أكثر من 90% من التمثيل المسيحي. وقرّرا احتكار هذا التمثيل على طريقة احتكار الثنائي الشيعي للطائفة. وعندما وقع الخلاف على الحصص بينهما، عاد كل منهما ليطعن بتمثيل الآخر وينفي مقولة الـ90%.
في نظر البعض أنّ «تفاهم معراب» «خدم عسكريته» ولم يعد ملائماً لأيّ من ركنيه. بل إنّ عمر «التفاهم» لم يكن أطول من عمر «السَكرَة» التي تسبّبت بها قناني الشمبانيا التي فُتِحت في «قلعة معراب» يومذاك... والتي بقي مفعولها «فوق». وأما «التيار» فيفضل عليها طعم الشمبانيا التي فُتِحت لعون في قصر بعبدا.
النصف الأول من العهد مرّ سريعاً، ومن دون تغييرات كبرى في المعادلات الأساسية. والأرجح أنّ هذه المعادلات لن تنقلب رأساً على عقِب في نصفه الثاني. ولذلك، يدخل الأقطاب الموارنة في المنازلة الجديدة، بعضُهم ضد بعض، وبكل قواهم. وفي هذه الأثناء، يمكن للآخرين أن يتفرّغوا للمسائل الكبرى «على رواق».