الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الموقع مع إيران، وضع نظام الملالي في مأزق انحسار مساحة المناورة خاصة بعد تصعيد العقوبات وقرار تصفير صادرات النفط ووضع الحرس الثوري على لائحة المنظمات الإرهابية، وما تبع ذلك من تعزيز للقوات العسكرية والتلميح الأميركي إلى الحرب إذا تعرضت مصالح الولايات المتحدة أو مصالح حلفائها لأي اعتداء تشنه إيران أو أذرعها في المنطقة.
النظام الإيراني بتوقيعه الاتفاق سنة 2015 اعتقد أنه امتلك تفويضا بحقوق تصدير مشروع ثورته إلى الشرق الأوسط وبعض مناطق العالم الرخوة، بعيدا عن رقابة ومتابعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وكذلك ألمانيا. تصرفات النظام تؤكد رهانه على إبقاء برنامجه النووي لأهداف التسلح ورقة بيده لابتزاز أوروبا والولايات المتحدة وبما يعول عليه من مواقف روسية وصينية تجاه السياسة الأميركية.
لكن الاتفاق الذي مدته 10 سنوات انقضت منه 4 سنوات، بمعنى أن المدة المتبقية لتأجيل العمل بالبرنامج النووي تقارب 6 سنوات، وهي مدة يدرك معها النظام الإيراني استحالة انتظار نهايتها في ظل واقع العقوبات وشبه العزلة الدولية ليعلن انتهاء مفعول العمل بصلاحيات الاتفاق، فاتحا لنفسه مجال العودة إلى فترة ما قبل التوقيع متسلحا بخبرة المفاوضات وحجة التزامه بعدم الانسحاب من الاتفاق طيلة ما تعرض إليه من ضغوط.
التهديد بمدة الشهرين لأوروبا، أو التخلي عن بعض بنود الاتفاق يوفر لنا قراءة ملامح سير المفاوضات قبل التوقيع وكيفية تعاطي النظام الإيراني مع سياسة التقسيط في إفشاء بعض أسرار برنامجه النووي، وسماحه لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالدخول إلى المفاعلات في آراك ونطنز، والنظام يسعى الآن لإعادة تسويق المخاوف من برامجه السرية للإيحاء بامتلاكه قدرات تسريع إنتاج أجهزة الطرد المركزي، أو الوصول بتخصيب اليورانيوم إلى سقف أعلى من محددات الاتفاق النووي.
حالة اللاحرب واللامفاوضات، ما البديل عنها غير التهديد بخرق بعض بنود الاتفاق أو الانسحاب منه، وهي تجسيد لما وصفه علي خامنئي بالسير على حافة الهاوية، وما بندقية القنص الروسية الصنع التي رافقته في خطابه بطهران إلا دلالة على انخفاض المعنويات ونفاد الصبر الاستراتيجي الذي طالما روجت له ولاية الفقيه ومن يتصل بها.
خبر امتلاك مدينة للصواريخ تحت الأرض الذي سربته إيران يشبه مضمون رسالة بندقية خامنئي المتوجة طيلة أربعين عاما من برامج الإرهاب والتضليل في متاهة محور المقاومة وحناجر زعماء الميليشيات وأجندات السياسة الإيرانية، التي يجد فيها بعضهم ملاذا من خيبات الإصرار على إثم خيانة أمتهم رغم أن الحق واضح وغايات ملالي طهران لا تخفي نواياها حتى بما يتصل باحتلال مكة أو الإساءة إليها. وهل هناك أسوأ من إطلاق صواريخها الباليستية باتجاهها، أو ما قاله علي فدوي، أحد قادة الحرس الثوري، “لو كنا في اليمن لسيطر الحوثيون على الرياض”، وهو يقصد هنا أن الحوثيين ما كان لهم أن يكتفوا بإطلاق صواريخهم.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب بانسحابه من الاتفاق وما آلت إليه العقوبات والاستحضارات العسكرية قطع أكثر من نصف المسافة نحو تغيير سلوك النظام، أو الرهان على الشعوب الإيرانية في تغيير النظام. أما النظام الإيراني وبصادرات إرهابه خلال العقود الأربعة الماضية من سلطته فيكون قد قطع كل المسافة للحرب مع العرب تحديدا، وأصبح على مقربة من مشارف جبهة حرب مفتوحة مع العالم وأساسا مع الشعوب الإيرانية التي ما عادت ترى في بندقية خامنئي إلا تلويحا بقوة غاشمة تختفي خلف صلاحيات ولايته ومشروع نظامه المتخلف الذي أساء للإسلام والإنسانية، وأجهز على طموحات المواطنين في إيران الذين بدأوا بالتدفق على دول الجوار طلبا لكفاف قوت أهلهم وأطفالهم.
التبجح بالمقاومة وتسميات ومناسبات فلسطين والقدس تدحضها المنافع المجانية التي قدمها النظام الإيراني لتدعيم الأمن الإسرائيلي بإضعاف المدن العربية، بل وتدميرها وتهجير سكانها وإفقارهم واستباحتهم بفيالق وحشود قاسم سليماني الطائفية.
دائما ما تعاف نفوسنا ذكر تفاصيل الجرائم الشائنة وما يلحق بأبناء جلدتنا وأهلنا، لكن يكفي أن نضرب مثلا بالموصل وما يجري فيها من انتهاكات قوى الاحتلال الإيراني، رغم أن السلطة في العراق تجاهر باستقلال قرارها وبالحياد والنأي بالنفس عن أي صراع مع إيران، لكنها سرعان ما أسفرت عن ولائها المطلق لنظام طهران عندما تحفظت على الإجماع العربي الذي أقر في قمم مكة إدانة السلوك التخريبي لإيران في المنطقة، دون مراعاة للتوقيت أو لمخاطر الانحياز لدعم الحرائق الإيرانية التي تستعر في كل زاوية من أرض العراق.
العراق نموذج مصغر لإيران تحت سلطة ولاية الفقيه، ولعل الفساد وتغول أدوات الحرس الثوري دفعا حتى بالقوى الطائفية التي تتستر بالاعتدال إلى إعلان ميولها بالاصطفاف مع إيران استجابة لمضمون بندقية المرشد، رغم أن المعركة خاسرة في مقاسات الداخل الإيراني وما يشهده من تداعيات لاهثة نحو تقبل المواجهات التي من المحتمل أن تضحي بالبحرية الإيرانية باعتبارها طُعما للمعارك خارج الحدود البرية، وأيضا التضحية بالميليشيات الخاضعة لولايتها في العراق، وذلك ما يعيد العراق إلى توازنه وفق الرؤية الأميركية لترميم العملية السياسية الفاشلة التي جاءت بها كارثة الاحتلال.
عبارة “التحريض ضد إيران” يتردد صداها في إعلام المحور الإيراني الموجه ضد مخرجات قمم مكة، رغم أن سياسة “التحريض ضد إرهاب النظام الإيراني” التي أقرتها قمم مكة ينبغي أن يتعامل معها العرب كما لو كانت استراتيجية لتجهيز خط دفاعهم الأول عن أمتهم للذود عنها واسترجاع ما ضاع من مدنهم وعواصمهم خلال أربعة عقود من مشروع إرهاب الملالي، لذلك فإن التحريض ضد النظام الإيراني وعزله هما أول الغيث حتى للشعوب الإيرانية الظمأى للحرية.