لنضع الأناشيد المدرسية على الرف ونلتفت إلى الواقع. ما أنجزه الفلسطينيون عبر سبعين سنة من نزوحهم ومقاومتهم وصمودهم وحفاظهم على هويتهم الوطنية، لم يصنعه شعب في التاريخ البشري.
كان المطلوب عالميا أن لا يكون هناك ذكر لفلسطين. أن لا تمحى فلسطين من الخارطة فحسب، بل وأيضا من الذاكرة الإنسانية. ولم تكن المجازر المروّعة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني إلا تمارين من أجل أن يكون ذلك التغييب ممكنا. غير أن ذلك الشعب نجح في أن يقلب المعادلة لصالحه حين كرس حضوره من خلال وعيه بشرط وجوده الإنساني، وهو شرط لم تكن الحياة لتكتمل من خلاله إلا عن طريق المقاومة.
صنع الفلسطينيون فكرة المقاومة التي اعتبرها الآخرون جسرا يصلون من خلاله إلى أهدافهم غير النزيهة التي لا علاقة لها بـ”فلسطين”.
لقد تحولت “فلسطين” إلى لافتة وشعار وبرقع تخفى تحته كل صنوف الاستبداد والقمع والاستئثار بالسلطة والسيطرة على الجماهير وتعطيل مظاهر الحياة ونسف أسبابها.
ذلك ما فعلته الأنظمة العربية وما صار العمود الفقري لقيام محور المقاومة بشبكته التي تمتد من إيران إلى لبنان ممثلا بحزب الله، مرورا بسوريا الأسد التي نفت نصف شعبها إلى المخيمات، والعراق الذي لا يزال يقف على رأس قائمة الدول الأكثر فسادا. وإذا ما كان الفلسطينيون قد وهبوا تاريخ البشرية صفحات مشرقة من خلال مقاومتهم، فإن تلك المقاومة صارت أشبه بعصا الأعمى التي يهش بها أغناما لا وجود لها في الحقل.
لقد تغيرت معادلات كثيرة بعد اتفاق أوسلو وغياب الرعيل الفلسطيني المقاوم وسقوط خيار المقاومة المسلحة.
وليس من حق حزب الله أن يرث القضية التي صار واضحا أنها قد وصلت إلى طرق لا علاقة لها بلغة السلاح. والفلسطينيون يعرفون ذلك جيدا. كل تلك المقاومات التي استظلت بفلسطين هي ليست من أجلها.
قاوم الإيرانيون من أجل أن يبسطوا سيطرتهم على المنطقة ليكونوا بعد ذلك مستعدين للإعلان عن قيام إمبراطوريتهم الفارسية.
من جهته قاوم النظام في سوريا من أجل أن تستمر ماكنة الفساد في عملها. الأمر الذي دفع بالشعب السوري إلى الخروج إلى الشوارع محتجا، وهو ما استفادت منه جهات مقاومة أخرى حين حولت المزارعين إلى مجاهدين فذهبت سوريا إلى حربها الأهلية التي فتحت الباب لرياح التدخل الأجنبي.
أما حزب الله فإنه رفع شعار المقاومة حتى تمكن من أن يضع اللبنانيين أمام خيارين. إما القبول به حاكما مستبدا لا يتعرض إلى المساءلة، وإما الذهاب بلبنان إلى حرب جديدة مع إسرائيل تكون نتائجها أكثر مأساوية من نتائج حرب عام 2006. كانت المقاومة كذبة ولم تكن فلسطين إلا ضحية.
يخشى المرء أحيانا أن يقول ذلك لأن المقاومة الفلسطينية ارتبطت بهدف نبيل. غير أن ذلك الهدف كان قد تحقق قبل أن يتشكل محور المقاومة القائم على مجموعة متلاحقة من الأكاذيب.
الخديعة الإيرانية التي تم تمريرها من خلال حزب الله تقوم على أساس الادعاء بمساندة الشعب الفلسطيني في نضاله التحرري. ترى ما الذي قدمته إيران للفلسطينيين عبر أربعين سنة من “يوم القدس” و”الموت لإسرائيل”؟
كان من الممكن أن تساهم في برامج التعليم الخاصة بأبناء المخيمات وتحسن سبل العيش من خلال توفير فرص للعمل. كان بإمكانها أن تنشط في القطاع الصحي من خلال إقامة المستشفيات في الضفة وقطاع غزة، بدلا من أن يذهب الفلسطينيون المرضى إلى إسرائيل طلبا للعلاج. وكان بإمكانها أيضا أن تستورد المحاصيل الزراعية من الضفة لكي تشجع الفلسطينيين على الصمود في أراضيهم. كل ذلك لم تفعله إيران وهي التي ترفع شعار المقاومة.
كانت إيران مباشرة وصريحة وعملية في عدائها للعرب، أما عداؤها لإسرائيل فقد ظل رهين الشعارات والمسيرات. لذلك يمكنني القول إنها تكره الفلسطينيين باعتبارهم عربا.
وكما يبدو فإن إيران التي انتحلت المقاومة شعارا لها لا ترى في فلسطين شأنا عربيا، بل هي تحلم بأن تكون فلسطين ممرها للذهاب إلى إسرائيل.إيران ومرتزقتها من المقاومين العرب يتقربون إلى إسرائيل من خلال عدائهم للعالم العربي.