والحال أن اللغة الطاغية هي لغة المفاوضات. بدا أن هذه الكلمة تزدهر هذه الأيام بغض النظر عما إذا كانت مجوفة فارغة من مضمون حقيقي، أو أنها تعبر عن ورشة تحضير خلفية لطاولة مفاوضات قادمة لا محالة.
كان الرئيس دونالد ترامب قد انقلب قبل أيام على صقوريته وراح يمطر إيران برسائل الحنان في الدعوة إلى الحوار والتفاوض وفي استشراف تعاون مع إيران مزدهرة. راح الصقر الآخر وزير الخارجية مايك بومبيو يتحدث عن استعداد لمفاوضات مع إيران دون شروط مسبقة، ما عُد انقلابا من قبل صاحب الشرور الـ12 الشهيرة.
تحدث الرئيس الإيراني حسن روحاني أيضا عن الاستعداد للتفاوض على نحو أطاح بكل المواقف السابقة الصادرة عن طهران، والتي أكدت أن لا تفاوض على الاتفاق النووي. يبقى أن لا شروط بومبيو تشترط أن تصبح إيران “دولة عادية”، فيما مفاوضات روحاني مشروطة بأن تتعامل واشنطن مع طهران بـ”احترام”. ومع ذلك فإن طريق المفاوضات مازال عسيرا، وطريق الحرب مازال واردا.
حالة اللاحرب واللاسلم
لا تملك إيران الرشاقة الكافية للتعامل مع أكبر أزمة تتعرض لها منذ أربعة عقود. تخاطب طهران خصومها بلغة خشبية لا تأخذ بعين الاعتبار أن العالم قد تغيّر وأن إيران التي عُرفت منذ قيام الجمهورية الإسلامية لم تعد داخل خارطة التحولات المقبلة، وأن التغير في السلوك الإيراني بات جزءا من هذه التحولات. وإذا ما كان النصر “صبر ساعة”، فإن الوقت لا يعمل أبدا هذه المرة لصالح إيران. فالعقوبات القاسية والتاريخية، حسب تعبير ترامب، التي تتعرّض لها إيران من قبل الولايات المتحدة تفتك بالنسيج الاقتصادي الإيراني وتهدد بانهياره، فيما تدرك طهران أن التجربة تهدد بقاء النظام الإيراني على الرغم من التطمينات الأميركية المتكررة من أن لا خطط لإسقاط نظام طهران.
وربما من الحكمة عدم الإنصات كثيرا للتصريحات الانقلابية التي تصدر من هنا وهناك تتحدث عن الحرب حينا وعن السلم والحوار أحيانا. فحالة اللاحرب واللاسلم تحتاج لمحركات ترفد الأزمة بضجيج، فيما قنوات التواصل الخلفية تحتاج لواجهات تعبر عن مزاج أصحاب الشأن.
وتبدو تلك التصريحات عاكسة لهمس خلفي يناقش قواعد التفاوض وشروط نهاياتها، وأن عدّة ذلك تستلزم إظهار القدرة على الوثوب نحو مراحل تقلب الأمور رأسا على عقب. ذلك تماما ما توحي به تصريحات روحاني عن التفاوض باحترام وتصريحات ترامب وبومبيو عن التفاوض مع دولة حين تصبح “عادية”.
والحال أن وزارة الخارجية الإيرانية أصابت حين رأت في كلام بومبيو عن “تفاوض دون شروط مسبقة” لعبا على الكلام. فالعقوبات الاقتصادية الأميركية وتحريك واشنطن لسفنها البحرية وقاذفاتها الجوية هي إستراتيجية تعمل على صيانة شروط وقواعد لجر إيران إلى طاولة ترامب. وما عدّه البعض تراجعا أميركيا وليونة طارئة، لا يعدو كونه واجهة من واجهات عديدة تقارب بها واشنطن الأزمة مع طهران.
وجب عدم إهمال أن الولايات المتحدة تتحدث مع العالم وتقوم بحملة دبلوماسية نشطة لصون موقفها من إيران، وأن أمر ذلك يحتاج إلى أن تُظهر منابرها الكبرى لغة تتسق مع مزاج العواصم المعنية.
قد يجدر التذكير بأن لكل عاصمة لغتها وأن للمكان ظرفا يفرض منطقا للكلام. بومبيو يجول في أوروبا، يتحدث لغة يفهمها الأوروبيون وليست بالضرورة موجهة لإيران. والرجل حين تحدث عن التفاوض دون شروط مسبقة مع إيران كان يتكلم من سويسرا. وبومبيو حين تكلم كان في هذا البلد لحضور أعمال مؤتمر بيلدربيرغ الشهير الذي يضم قيادات اقتصادية وسياسية دولية والذي يلتئم بشكل سري لا تتسرب المداولات داخله.
وبغض النظر عن نظريات المؤامرة التي لطالما التصقت بجماعة بيلدربيرغ حول تقريرها لمصير هذا العالم وتحولاته، فإن بومبيو بدا أنه يحتاج للحديث عن لغة الحوار والسلم قبل أن ينضم إلى ذلك المحفل السري الشهير.