أخي الدركي طيب وخجول ومنضبط. لا يُحب حمل السلاح. يلتزم القوانين والتعليمات ويُنفذها بحذافيرها، ما يجعله أحياناً كثيرة عرضة لتنمر زملاء له، يصفونه بـ”الساذج”. الصورة النمطية المطبوعة في أذهان اللبنانيين عن عناصر قوى الأمن الداخلي لا تُشبه صورة أخي. هو للمفارقة لا يُحب أكل الدجاج. المارة على خطوط السير في طرابلس باتوا يعرفونه ويشيدون به، ولكنهم أيضاً، في أحيان كثيرة، يتهكمون به، لأنه يرفض مغادرة موقعه لتنظيم السير في المدينة، ولا حتى قبل ربع ساعة من دوامه الرسمي.
لا أحد يعرف ماذا حصل في قلبي عندما عرفت أن سيارة لقوى الأمن تعرَضت لهجوم في طرابلس مساء أمس. لا أحد يعرف ماذا يعني أن يكون للواحد أخ دركيّ، إلا من عاش ذلك.
"يحرس" أخي الدركي إشارة السير غير الموجودة أصلاً على التقاطعات الأساسية في المدينة، ويُنظّم السير من السادسة والنصف صباحاً حتى الثامنة مساءً. يرتاح خلالها ساعة فقط. في الشتاء يعود إلى البيت وبزته مبللة بالكامل ورأسه متحجر من الصقيع. في الصيف، يعود مبللاً جراء العرق المتصبب بغزارة. تتحوّل سمرته الجميلة إلى لون داكن يغطي تشققات في جلده أفرزتها الشمس. كاحل قدمه اليُمنى غزته المسامير بسبب ضغط حذائه العسكري أثناء وقوفه لساعات طويلة. أخي الدركي يضع كمّامة على أنفه عندما تشتد الروائح الكريهة المنبعثة من جبل النفايات في طرابلس. لطالما اتصل بي شاكياً: "ما بقا في أوكسيجين. ما عم إتنفس غير الزبالة". في إحدى المرات فقد وعيه بسبب تنشقه الانبعاثات السامة من دخان السيارات التي تعمل على المازوت. قرر أخيراً أن يصطحب معه مظلة شمسية ضخمة، لعله يحتمي بها، إلا أنها كسرت، وعاد أخي وحيداً تحت الشمس وفي المطر.
أخي الدركي يتذمر من ظروف خدمته السيئة، ليعود ويرضى بالأمر الواقع. قد يُعالج آلامه الجسدية بطريقة ما، لكن الإحباطات المعنوية المتكررة تُطبق عليه. يلتمس أخي وزملاؤه عن قرب تراجع هيبة الدولة. في إحدى المرات، أومأ بيده بإشارةٍ ليقف خط السير من الجهة اليمنى، ليفتح المجال أمام خط السير المقابل، إلا أن أحد السائقين (على عجلة من أمره على ما يبدو)، قرر أن يتجاهل وجود الدركي ويمضي مخالفاً السير. علت أصوات المعترضين “مش شايفو يا دركي”. شعر أخي بالإهانة. حاول تسطير مخالفة سير بحقه. وقبل أن يحمل الدفتر والقلم بين يديه، كانت زوجة السائق قد ترجلت من السيارة وركضت نحوه. تهجمت عليه ورمته بالحجارة ثم لاذت وزوجها بالفرار. يومها سألني أخي: "ماذا كان يجب أن أفعل؟". لم أجد جواباً أبلغ من الصمت.
أمس، ضرب الإرهاب المدينة. أحرق إرهابي سيارة لقوى الأمن الداخلي كان فيها زملاء أخي. استشهد صديقه جوني خليل. لحظة معرفتي بالخبر لم تكن هوية الشهيد قد عُرفت بعد. اقتربت باسكال من سريري في غرفتنا المشتركة وهمست: "أريد أن أخبرك شيئاً لكن لا تفزعي. هناك هجوم إرهابي في طرابلس". سارعت للتفتيش عن أي خبر أو معلومة. علمت أن المستهدف عناصر قوى الأمن الداخلي. شعرت برعشة ألم تتسلل إلى أطرافي. تمالكت نفسي إلى أن ظهرت صورة الشهيد على شاشة الهاتف أمامي. توجست هل يعقل أن يكون أخي؟ أعرف أن أخي يخرج في دوريات أمنية في المناسبات الرسمية. حاولت تكبير الصورة وأصابعي ترتجف. لم أستطع أن أتبين تفاصيل وجهه بسبب الدماء التي غطته. كيف يحدث هذا؟ كيف يمكن أن يصبح الوقت ثقيلاً هكذا وأن تغدو الحياة عبثية إلى هذا الحد؟ فجأة أذيع الخبر. الشهيد ليس أخي ولكنني أعرفه. هو صديقه الذي حكى لي عنه مراراً. يروي لي أخي حكايات كثيرة عن خدمته وزملائه وموافقهم السعيدة والمؤلمة. مضى وقت وأنا ما زلت أرتجف. أخي ليس شهيداً، لماذا لم أهدأ؟ لحظات ووجدتني أعترف: هذه المرة لم يستشهد… ولكن!
لم أدرك كيف يجب أن أواجه الموقف. أن يكون أخوك عسكرياً في بلد منكوب مثل لبنان، وفي مدينة تحكمها الفوضى مثل طرابلس، يعني أن تجبر نفسك على أن تتآلف مع فكرة الخسارة. أن تروّض نفسك على استقبال المفاجآت المؤلمة في أي وقت. معظم شبابنا يقتلون في فترات "السِلم" ما يجعل خسارتهم أكثر مرارة. موتهم يباغتنا. يرحلون على عجل ومن دون مقدمات. أربعة شهداء سقطوا بأقل من نصف ساعة. قتلوا بدم بارد وحقد غير مبرر وما من عدالة تنتصر لهم. سيناريوات كثيرة اختلطت في رأسي. إخوتي وابن خالي وابن خالتي وعدد لا بأس به من الجيران، كلهم جنود عسكريون. أحاول أن أستجمع أفكاري وأطرد "الفأل" بعيداً. لكنني عاجزة. وجدتني أتصل بأبي أطلب منه أن يمنع أخي من الالتحاق بخدمته هذه الفترة. أجاب والدي ليُبعد مني مخاوفي: "حاضر سأفعل". ثم عادت باسكال الغرفة من جديد. سألتني: "ما بك؟". لم أقل شيئاً، بكيت وحسب.