كم تبدو “صفقة القرن” بعيدة من هموم الديبلوماسية اللبنانية، على رغم أن لبنان في صلبها. الحدود البرية والبحرية وتوطين الفلسطينيين، وما سينجم عن الصفقة لجهة مستقبل المنطقة، كل هذه الحسابات خارج هموم الديبلوماسية اللبنانية. حين تتحدث مع مسؤول أردني، يبدو في صوته هلع مما يُرتب لبلده في سياق اشتغال الصفقة. وحين تلتقي مسؤولاً فلسطيني يسألك عن أحوال لبنان في ظل اقتراب استحقاقات “الصفقة”، وبعدها تتصل بديبلوماسي في سفارة للبنان في إحدى الدول الكبرى فيقول لك أنه لم يجر اجتماع واحد لبحث احتمالات صفقة القرن وارتداداتها على لبنان، ولم يبلغ الديبلوماسيون خطة أو توجهاً يتعاملون بموجبه مع هذا الاستحقاق الهائل.
صفقة القرن تفترض إلغاء حق العودة، ما يعني بالنسبة للبنان توطين ما بين ٣٠٠ ألف ٤٠٠ فلسطيني، وتفترض إلغاء وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، وما تقدمه من خدمات للمخيمات الفلسطينية، وهذا يعني أن هذه المهمة ستؤول إلى الحكومة اللبنانية المفلسة أصلاً. والصفقة تفترض ترسيماً نهائياً للحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، مع ما يعني ذلك من قضايا لها علاقة بمزارع شبعا وبحقول الغاز البحرية.
وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل يخوض معارك كبرى في مواجهة أساتذة الجامعة اللبنانية، والطائفة السنية واللاجئين السوريين، ولا يفوت فرصة إلا ويستثمرها لإنتاج عصب طائفي حول موقعه. صفقة القرن خارج حساباته. فلسطين مثلاً قررت مقاطعة قمة البحرين أواخر هذا الشهر
صفقة القرن تفترض إلغاء حق العودة، ما يعني بالنسبة للبنان توطين ما بين ٣٠٠ ألف ٤٠٠ فلسطيني، وتفترض إلغاء وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، وما تقدمه من خدمات للمخيمات الفلسطينية، وهذا يعني أن هذه المهمة ستؤول إلى الحكومة اللبنانية المفلسة أصلاً.
احتجاجاً على “صفقة القرن”، والأردن سيخفض مستوى تمثيله فيه إلى ما دون الوزير المعني بالملف، ولكن أين لبنان من كل هذا الضجيج؟ هل بحث أحدٌ بمشاركة لبنان في هذه القمة؟ هل لدى أحد تصوراً عن مصالح لبنان في ظل استحقاق قمة المنامة؟
للبنان ضجيجه الخاص، وهو أوكل مهمة البحث في مستقبل موقعه في المنطقة إلى حزب الله. الأمين العام لهذا الحزب حسن نصرالله كان الصوت “اللبناني” الوحيد الذي تناول قضية صفقة القرن. نصرالله حدد موقف لبنان منها في خطابه الأخير. والحال أن المرء يميل إلى موقف غير بعيد عن موقف نصرالله من الصفقة، إلا أن تولي الأمين العام لـ”حزب الله” مهمة تمثيل لبنان في هذه المواجهة سيضعف من جدوى هذا الرفض، ذاك أن مصدر رفض نصرالله لها مختلف تماماً عن موقع لبنان من هذا الرفض. الرفض الأول هو جزء من مواجهة أميركية إيرانية، فيما الرفض الثاني من المفترض أن يصدر عن مصلحة وطنية لبنانية.
لقد باع جبران باسيل ومن خلفه التيار العوني موقع لبنان الإقليمي لحزب الله وتقاضى وزير خارجيتنا الثمن عبر إتاحة حزب الله له المجال لمواجهات مذهبية يخوضها كل يوم. الفضائح المتناسلة يومياً ما كان لباسيل أن يرتكبها من دون أي شعور بأن ثمة من سيحاسبه، لولا أنه أقدم على صفقة داخلية لبنانية مع الحزب تشبه صفقة القرن.
لكن استحقاق الصفقة الدولية لن يبقي لباسيل فتات الصفقة الداخلية. فلبنان الذي يدفن رأسه في الرمال لن يقوى على البقاء خارج طموحات أرباب الصفقة. أمام رئيس الحكومة سعد الحريري مثلاً لحظات حرجة جداً. فالسعودية، راعيته، منقادة بحماسة إلى إنجاز الصفقة، والرياض ستطلب من رئيس الحكومة موقفاً ايجابياً منها، لكن من الواضح أن تبعات الصفقة على لبنان أكبر بكثير من أن يتحمل الحريري طلباً سعودياً بقبولها. ثم أن موضوع توطين الفلسطينيين مع ما يمثله من حساسية
مسيحية، هو اليوم ورقة مفاوضة في يد حزب الله، ولا أثر لدور مسيحي في البحث فيه.
لبنان الحقيقي هو لبنان حزب الله، أما لبنان المفرغ من الدور ومن القيمة ومن الموقع فهو لبنان جبران باسيل. لهذا السبب تماماً تبدو صفقة القرن خارج التناول الرسمي اللبناني، فيما أفرد لها أمين عام “حزب الله” أكثر من نصف خطابه قبل يومين.
ليس لدى لبنان اليوم سوى فضائحه. قصة براءة سوزان الحاج، الضابط التي ظهرت تسجيلات لها سمعها كل اللبنانيين وهي تحاول فبركة تهمة العمالة لإسرائيل للفنان زياد عيتاني، لم يخجل القضاء اللبناني من إعلانها على رغم الوثائق والتسجيلات وعلى رغم الجريمة المعلنة التي ارتكبت بحق عيتاني، هي قصة لبنان اليوم. وقصته أيضاً هي قصة تعيين شقيقة رئيس مجلس النواب نبيه بري مديرة عامة من خارج الملاك. وقصته هي قصة تلك اللافتات التي تنضح بعنصرية حيال اللاجئيين السوريين، والتي علقتها بلديات منتخبة. أما صفقة القرن فهي مهمة لبنان الحقيقي، لبنان الموازي والذي أوكل تمثيله إلى “حزب الله”.
لبنان الحقيقي هو لبنان حزب الله، أما لبنان المفرغ من الدور ومن القيمة ومن الموقع فهو لبنان جبران باسيل. لهذا السبب تماماً تبدو صفقة القرن خارج التناول الرسمي اللبناني، فيما أفرد لها أمين عام “حزب الله” أكثر من نصف خطابه قبل يومين.
أمام لبنان خيارين لمواجهة احتمالات الصفقة، الأول هو أن يكون جزءاً من منظومة الدول المتضررة منها، وأن ينضم إلى عمان ورام الله لتنظيم مواجهة ديبلوماسية لا تخلو من التعامل بواقعية ولكن ضمن حسابات المصالح الوطنية، والخيار الثاني أن يكون جزءاً من المواجهة الأميركية الإيرانية في سياق رفضه الصفقة، وأن يوظف مسيحيوه في هذه المواجهة، علماً أن هذه المواجهة ليست صفقة القرن موضوعها.
جبران باسيل ومن خلفه رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفهما جمهور مسيحي كبير، قرروا أن نصرالله هو من سيتولى إدارة موقع لبنان في زلزال صفقة القرن، وتقاضوا أثماناً زهيدة حيال هذا التفويض، وهي أثمان سترتد عليهم وعلى لبنان في نهاية المطاف. فتحويل القضاء مطية لمصالح
صغرى، والتأسيس لخطاب عنصري وطائفي ومذهبي هو تأسيس لمواجهة ليس المسيحيون هم الطرف الأقوى فيها.
في هذا الوقت غرد رئيس الحكومة سعد الحريري على تويتر معلناً إدانته قرار القضاء تبرئة سوزان الحاج، وعلق ناشط على السوشيل ميديا على هذه التغريدة: أهلاً بكم دولة الرئيس في نادي الناشطين على السوشيل ميديا.